هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى فِي آخِرِ السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا هَلَاكَ الْمُشْرِكِينَ أَعْدَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنْزَلَهُمْ مَنَازِلَ الْعَذَابِ، تَعَيَّنَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَمْدُهُ تَعَالَى وَشُكْرُهُ لِنَعْمَائِهِ وَوَصْفُهُ بِعَظِيمِ آلَائِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (?) .
وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ وَالزَّهْرِيُّ: فَطَرَ، جَعَلَهُ فِعْلًا مَاضِيًا وَنَصَبَ مَا بَعْدَهُ. قَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ: فَإِمَّا عَلَى إِضْمَارِ الَّذِي فَيَكُونُ نَعْتًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِمَّا بِتَقْدِيرِ قَدْ فِيمَا قَبْلَهُ فَيَكُونُ بِمَعْنَى الْحَالِ. انْتَهَى. وَحَذْفُ الْمَوْصُولِ الِاسْمِيِّ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَأَمَّا الْحَالُ فَيَكُونُ حَالًا مَحْكِيَّةً، وَالْأَحْسَنُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ محذوف، أي هُوَ فَطَرَ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى خَالِقُهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ، والسموات وَالْأَرْضُ عِبَارَةٌ عَنِ الْعَالَمِ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْحَمْدُ يَكُونُ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ عَلَى النِّعْمَةِ، ونعم الله عاجلة، والْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ (?) ، إشارة إلى أن النِّعْمَةِ الْعَاجِلَةِ وَدَلِيلُهُ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلًا (?) ، والْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ (?) ، إِشَارَةٌ إِلَيْهَا أَيْضًا، وَهِيَ الِاتِّقَاءُ، فَإِنَّ الِاتِّقَاءَ وَالصَّلَاحَ بِالشَّرْعِ وَالْكِتَابِ. وَالْحَمْدُ فِي سُورَةِ سَبَأٍ إِشَارَةٌ إِلَى نِعْمَةِ الْإِيجَادِ وَالْحَشْرِ، وَدَلِيلُهُ: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها (?) مِنْهَا، وَقَوْلُهُ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ (?) ، وَهُنَا إِشَارَةٌ إِلَى نِعْمَةِ البقاء في الآخرة، دليله: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ (?) . ففاطر السموات وَالْأَرْضِ شَاقُّهُمَا لِنُزُولِ الْأَرْوَاحِ مِنَ السَّمَاءِ، وَخُرُوجِ الْأَجْسَادِ مِنَ الْأَرْضِ دَلِيلُهُ: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ: أَيْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ.
فَأَوَّلُ هَذِهِ السُّورَةِ مُتَّصِلٌ بِآخِرِ مَا مَضَى، لِأَنَّ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ بَيَانٌ لِانْقِطَاعِ رَجَاءِ مَنْ كَانَ فِي شَكٍّ مُرِيبٍ. وَلَمَّا ذَكَرَ حَالَهُمْ ذَكَرَ حَالَ الْمُؤْمِنِ وَبَشَّرَهُ بِإِرْسَالِ الْمَلَائِكَةِ إِلَيْهِمْ مُبَشِّرِينَ، وَأَنَّهُ يَفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَابَ الرَّحْمَةِ.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ: جَاعِلٌ بِالرَّفْعِ، أَيْ هُوَ جَاعِلٌ وَعَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: وَجَاعِلُ رَفْعًا بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، الْمَلَائِكَةَ نَصْبًا، حَذْفِ التَّنْوِينِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَرَأَ ابْنُ يعمر،