لِأَنَّهَا تَتَضَادُّ إِذِ الْعُرْيُ نَفْسُهُ الْبَرْدُ فَيُؤْذِي وَالْحَرُّ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِالضَّاحِي، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ مَهْيَعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يَقْرِنَ النَّسَبَ. وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
كَأَنِّي لَمْ أَرْكَبْ جَوَادًا لِلَّذَّةِ ... وَلِمَ أَتَبَطَّنْ كَاعِبًا ذَاتَ خِلْخَالِ
وَلَمْ أَسْبَأِ الرِّقَّ الرَّوِيَّ وَلَمْ أَقُلْ ... لِخَيْلِي كُرِّي كَرَّةً بَعْدَ إِجْفَالِ
وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ إِلَى أَنَّ بَيْتَيِ امْرِئِ الْقَيْسِ كَافْطَانِي لِلنَّسَبِ، وَأَنَّ رُكُوبَ الْخَيْلِ لِلصَّيْدِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَلَاذِّ يُنَاسِبُ تَبَطُّنَ الْكَاعِبِ انْتَهَى.
وَقِيلَ: هَذَا الْجَوَابُ عَلَى قَدْرِ السُّؤَالِ لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ آدَمَ بِسُكْنَى الْجَنَّةِ قَالَ: إِلَهِي أَلِيَ فِيهَا مَا آكُلُ؟ أَلِيَ فِيهَا مَا أَلْبَسُ؟ أَلِيَ فِيهَا مَا أَشْرَبُ؟ أَلِيَ فِيهَا مَا أَسْتَظِلُّ بِهِ؟
وَقِيلَ: هِيَ مُقَابَلَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ، فَالْجُوعُ خُلُوُّ الْبَاطِنِ، وَالتَّعَرِّي خُلُوُّ الظَّاهِرِ، وَالظَّمَأُ إِحْرَاقُ الْبَاطِنِ، وَالضَّحْوُ إِحْرَاقُ الظَّاهِرِ فَقَابَلَ الْخُلُوَّ بالخلو وَالْإِحْرَاقَ بِالْإِحْرَاقِ. وَقِيلَ: جَمَعَ امْرُؤُ الْقَيْسِ فِي بَيْتَيْهِ بَيْنَ رُكُوبِ الْخَيْلِ لِلَّذَّةِ وَالنُّزْهَةِ، وَبَيْنَ تَبَطُّنِ الْكَاعِبِ لِلَّذَّةِ الْحَاصِلَةِ فِيهِمَا، وَجَمَعَ بَيْنَ سِبَاءِ الرِّقِّ وَبَيْنَ قَوْلِهِ لِخَيْلِهِ كَرِّي لِمَا فِيهِمَا مِنَ الشَّجَاعَةِ وَلِمَا عِيبَ عَلَى أَبِي الطِّيبِ قَوْلَهُ:
وَقَفَتْ وَمَا فِي الْمَوْتِ شَكٌّ لِوَاقِفٍ ... كَأَنَّكَ فِي جَفْنِ الرَّدَى وَهُوَ نَائِمُ
تَمُرُّ بِكَ الْأَبْطَالُ هَزْمَى كَلِيمَةً ... وَوَجْهُكُ وَضَّاحٌ وَثَغْرُكُ بَاسِمُ
فَقَالَ: إِنْ كُنْتُ أَخْطَأْتُ فَقَدْ أَخْطَأَ امْرُؤُ الْقَيْسِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي فَوَسْوَسَ وَالْخِلَافُ فِي كَيْفِيَّتِهَا فِي الْأَعْرَافِ، وَتَعَدَّى وَسْوَسَ هُنَا بِإِلَى وَفِي الْأَعْرَافِ بِاللَّامِ، فَالتَّعَدِّي بِإِلَى مَعْنَاهُ أَنْهَى الْوَسْوَسَةَ إِلَيْهِ وَالتَّعَدِّيَ بِلَامِ الْجَرِّ، قِيلَ مَعْنَاهُ: لِأَجْلِهِ وَلَمَّا وَسْوَسَ إِلَيْهِ نَادَاهُ بِاسْمِهِ لِيَكُونَ أَقْبَلَ عَلَيْهِ وَأَمْكَنَ لِلِاسْتِمَاعِ، ثُمَّ عَرَضَ عَلَيْهِ مَا يَلْقَى بِقَوْلِهِ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي يُشْعِرُ بِالنَّضْحِ. وَيُؤْثِرُ قَبُولَ مَنْ يُخَاطِبُهُ كَقَوْلِ مُوسَى هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (?) وَهُوَ عَرْضٌ فِيهِ مُنَاصَحَةٌ، وَكَانَ آدَمُ قَدْ رَغَّبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي دَوَامِ الرَّاحَةِ وَانْتِظَامِ الْمَعِيشَةِ بِقَوْلِهِ فَلا يُخْرِجَنَّكُما الْآيَةَ وَرَغَّبَهُ إِبْلِيسُ فِي دَوَامِ الرَّاحَةِ بِقَوْلِهِ: هَلْ أَدُلُّكَ فَجَاءَهُ إِبْلِيسُ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي رَغَّبَهُ اللَّهُ فِيهَا. وَفِي الْأَعْرَافِ مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ (?) الآية. وَهُنَا هَلْ أَدُلُّكَ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ قَوْلَهُ هَلْ أَدُلُّكَ يَكُونُ سَابِقًا عَلَى قَوْلِهِ مَا نَهاكُما لَمَّا رَأَى إِصْغَاءَهُ وَمَيْلَهُ إِلَى مَا عَرَضَ عَلَيْهِ انْتَقَلَ إلى الإخبار والحصر.