الْكَشَّافِ وَكُلُّهُمْ مُتَقَلِّبُونَ فِي مَلَكُوتِهِ مَقْهُورُونَ بِقَهْرِهِ، وَقَدْ خَدَشَ فِي ذَلِكَ أَبُو زَيْدٍ السُّهَيْلِيُّ فَقَالَ: كُلٌّ إذا ابتدأت وَكَانَتْ مُضَافَةً لَفْظًا يَعْنِي إِلَى مَعْرِفَةٍ فَلَا يَحْسُنُ إِلَّا إِفْرَادُ الْخَبَرِ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى، تَقُولُ: كُلُّكُمْ ذَاهِبٌ أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ ذَاهِبٌ، هَكَذَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ الْفَصِيحِ فَإِنْ قُلْتَ: فِي قَوْلِهِ وَكُلُّهُمْ آتِيهِ إِنَّمَا هُوَ حَمْلٌ عَلَى اللَّفْظِ لِأَنَّهُ اسْمٌ مُفْرَدٌ قُلْنَا: بَلْ هُوَ اسْمٌ لِلْجَمْعِ وَاسْمُ الْجَمْعِ لَا يُخْبَرُ عَنْهُ بِإِفْرَادٍ، تَقُولُ: الْقَوْمُ ذَاهِبُونَ، وَلَا تَقُولُ: الْقَوْمُ ذَاهِبٌ وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْقَوْمِ كَلَفْظِ الْمُفْرَدِ، وَإِنَّمَا حَسُنَ كُلُّكُمْ ذَاهِبٌ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ ذَاهِبٌ فَكَانَ الْإِفْرَادُ مُرَاعَاةً لِهَذَا الْمَعْنَى انْتَهَى. وَيَحْتَاجُ فِي إِثْبَاتِ كُلُّكُمْ ذَاهِبُونَ بِالْجَمْعِ وَنَحْوِهِ إِلَى سَمَاعٍ وَنَقْلٍ عَنِ الْعَرَبِ، أَمَّا إِنْ حُذِفَ الْمُضَافُ الْمَعْرِفَةُ فَالْمَسْمُوعُ مِنَ الْعَرَبِ الْوَجْهَانِ.
وَالسِّينُ فِي سَيَجْعَلُ لِلِاسْتِقْبَالِ فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْجَعْلُ فِي الدُّنْيَا، وَجِيءَ بِأَدَاةِ الِاسْتِقْبَالِ لِأَنَّ المؤمنين كانوا بمكة حَالَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَكَانُوا مَمْقُوتِينَ مِنَ الْكَفَرَةِ، فَوَعَدَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ إِذَا ظَهَرَ الْإِسْلَامُ وَفَشَا. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا عَلَى الْإِطْلَاقِ كَمَا
فِي التِّرْمِذِيِّ. قَالَ: «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ إِنِّي قَدْ أَحْبَبْتُ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، قَالَ: فَيُنَادِي فِي السَّمَاءِ ثُمَّ تَنْزِلُ لَهُ الْمَحَبَّةُ فِي الْأَرْضِ» قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا
إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. قال ابن عطية: ويحتمل أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ مُتَّصِلَةً بِمَا قَبْلَهَا فِي الْمَعْنَى أَيْ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ عَنِ إِتْيَانِ كل من في السموات وَالْأَرْضِ فِي حَالِ الْعُبُودِيَّةِ وَالِانْفِرَادِ، أَنَّسَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُ سَيَجْعَلُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وُدًّا وَهُوَ مَا يَظْهَرُ عَلَيْهِمْ مِنْ كَرَامَتِهِ لِأَنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ لِلْعَبْدِ إِنَّمَا هِيَ مَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ مِنْ نِعَمِهِ وَأَمَارَاتِ غُفْرَانِهِ انْتَهَى.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُحَبِّبُهُمْ إِلَى خَلْقِهِ بِمَا يَعْرِضُ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ وَيَنْشُرُ مِنْ دِيوَانِ أَعْمَالِهِمْ. وَقَالَ أَيْضًا: وَالْمَعْنَى سَيُحْدِثُ لَهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوَدَّةً وَيَزْرَعُهَا لَهُمْ فِيهَا مِنْ غَيْرِ تَوَدُّدٍ مِنْهُمْ وَلَا تَعَرُّضٍ لِلْأَسْبَابِ الَّتِي يَكْتَسِبُ بِهَا النَّاسُ مَوَدَّاتِ الْقُلُوبِ مِنْ قُرَابَةٍ أَوْ صَدَاقَةٍ أَوِ اصْطِنَاعِ مَبَرَّةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِرَاعٌ مِنْهُ ابْتِدَاءً اخْتِصَاصًا مِنْهُ لِأَوْلِيَائِهِ بِكَرَامَةٍ خَاصَّةٍ، كَمَا قَذَفَ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِمُ الرُّعْبَ وَالْهَيْبَةَ إعظاما لهم وَإِجْلَالًا لِمَكَانِهِمْ انْتَهَى. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ وَالتَّقْدِيرُ سَيُدْخِلُهُمْ دَارَ كَرَامَتِهِ وَيَجْعَلُ لَهُمْ وُدًّا بِسَبَبِ نَزْعِ الْغِلِّ مِنْ صُدُورِهِمْ بِخِلَافِ الْكُفَّارِ، فَإِنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَفِي النَّارِ أَيْضًا يَتَبَرَّأُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ.