وَاشْتَعَلَ الْمُبْيَضُّ فِي مُسْوَدِّهِ ... مِثْلَ اشْتِعَالِ النَّارِ فِي جَزْلِ الْغَضَا
وَبَعْضُهُمْ أَعْرَبَ شَيْباً مَصْدَرًا قَالَ: لِأَنَّ مَعْنَى وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَابَ فَهُوَ مَصْدَرٌ مِنَ الْمَعْنَى. وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَاشْتِعَالُ الرَّأْسِ اسْتِعَارَةُ الْمَحْسُوسِ لِلْمَحْسُوسِ إِذِ الْمُسْتَعَارُ مِنْهُ النَّارُ وَالْمُسْتَعَارُ لَهُ الشَّيْبُ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا الِانْبِسَاطُ وَالِانْتِشَارُ وَلَمْ أَكُنْ نَفْيٌ فِيمَا مَضَى أَيْ مَا كُنْتُ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا بَلْ كُنْتُ سَعِيدًا مُوَفَّقًا إِذْ كُنْتَ تُجِيبُ دُعَائِي فَأَسْعَدُ بِذَلِكَ، فَعَلَى هَذَا الْكَافُ مَفْعُولٌ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى بِدُعائِكَ إِلَى الْإِيمَانِ شَقِيًّا بَلْ كُنْتُ مِمَّنْ أَطَاعَكَ وَعَبَدَكَ مُخْلِصًا. فَالْكَافُ عَلَى هَذَا فَاعِلٌ وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى بِمَا سَلَفَ إِلَيْهِ مِنْ إِنْعَامِهِ عَلَيْهِ، أَيْ قَدْ أَحْسَنْتَ إِلَيَّ فِيمَا سَلَفَ وَسَعِدْتُ بِدُعَائِي إِيَّاكَ فَالْإِنْعَامُ يَقْتَضِي أَنْ تجيبني آخر كَمَا أَجَبْتَنِي أَوَّلًا.
وَرُوِيَ أَنَّ حَاتِمًا الطَّائِيَّ أَتَاهُ طَالِبُ حَاجَةٍ فَقَالَ: أَنَا أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ وَقْتَ كَذَا، فَقَالَ حَاتِمٌ: مَرْحَبًا بِالَّذِي تَوَسَّلَ بِنَا إِلَيْنَا وَقَضَى حَاجَتَهُ.
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي الْمَوالِيَ بَنُو الْعَمِّ وَالْقَرَابَةِ الَّذِينَ يَلُونَ بِالنَّسَبِ. قَالَ الشَّاعِرِ:
مَهْلًا بَنِي عَمِّنَا مَهْلًا مَوَالِينَا ... لَا تَنْبِشُوا بَيْنَنَا مَا كَانَ مَدْفُونَا
وَقَالَ لَبِيدٌ:
وَمَوْلًى قَدْ دَفَعْتُ الضَّيْمَ عَنْهُ ... وَقَدْ أَمْسَى بِمَنْزِلَةِ الْمَضِيمِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَأَبُو صَالِحٍ الْمَوالِيَ هُنَا الْكَلَالَةُ خَافَ أَنْ يَرِثُوا مَالَهُ وَأَنْ يَرِثَهُ الْكَلَالَةُ.
وَرَوَى قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَرْحَمُ اللَّهُ أَخِي زَكَرِيَّا مَا كَانَ عَلَيْهِ مِمَّنْ يَرِثُ مَالَهُ» .
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِنَّمَا كَانَ مَوَالِيهِ مُهْمِلِينَ الدِّينَ فَخَافَ بِمَوْتِهِ أَنْ يَضِيعَ الدِّينُ فَطَلَبَ وَلِيًّا يَقُومُ بِالدِّينِ بَعْدَهُ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ عَنْهُ إِذْ
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ»
وَالظَّاهِرُ اللَّائِقُ بِزَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَعْصُومٌ أَنَّهُ لَا يَطْلُبُ الْوَلَدَ لِأَجْلِ مَا يُخْلِفُهُ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّمَا خَافَ أَنْ تَنْقَطِعَ النُّبُوَّةُ مِنْ وَلَدِهِ وَيَرْجِعَ إِلَى عُصْبَتِهِ لِأَنَّ تِلْكَ إِنَّمَا يَضَعُهَا اللَّهُ حَيْثُ شَاءَ وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى اللَّهِ فِيمَنْ شَاءَهُ وَاصْطَفَاهُ مِنْ عِبَادِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ كَانَ مَوَالِيهِ وَهُمْ عَصَبَتُهُ إِخْوَتُهُ وَبَنُو عَمِّهِ شِرَارَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَخَافَهُمْ عَلَى الدِّينِ أَنْ يُغَيِّرُوهُ وَأَنْ لَا يُحْسِنُوا الْخِلَافَةَ عَلَى أُمَّتِهِ، فَطَلَبَ عَقِبًا صَالِحًا مِنْ صُلْبِهِ يَقْتَدِي بِهِ فِي إِحْيَاءِ الدِّينِ.