الْآيَةُ إِذَا كَانَ أَصْحَابُهَا بُصَرَاءَ.
وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ مُبْصِرَةً بِفَتْحِ الْمِيمِ،
وَالصَّادِ وَهُوَ مَصْدَرٌ أُقِيمَ مَقَامَ الِاسْمِ، وَكَثُرَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي صِفَاتِ الْأَمْكِنَةِ كَقَوْلِهِمْ: أَرْضٌ مَسْبَعَةٌ وَمَكَانٌ مَضَبَّةٌ، وَعَلَّلَ الْمَحْوَ وَالْإِبْصَارَ بِابْتِغَاءِ الْفَضْلِ وَعِلْمِ عَدَدِ السِّنِينَ وَالْحِسَابِ، وَوَلِيَ التَّعْلِيلَ بِالِابْتِغَاءِ مَا وَلِيَهُ مِنْ آيَةِ النَّهَارِ وَتَأَخَّرَ التَّعْلِيلُ بِالْعِلْمِ عَنْ آيَةِ اللَّيْلِ. وَجَاءَ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ (?) الْبُدَاءَةُ بِتَعْلِيلِ الْمُتَقَدِّمِ ثُمَّ تَعْلِيلِ الْمُتَأَخِّرِ بِالْعِلَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ، وَهُمَا طَرِيقَانِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا.
وَمَعْنَى لِتَبْتَغُوا لِتَتَوَصَّلُوا إِلَى اسْتِبَانَةِ أَعْمَالِكُمْ وَتَصَرُّفِكُمْ فِي مَعَايِشِكُمْ وَالْحِسابَ لِلشُّهُورِ وَالْأَيَّامِ وَالسَّاعَاتِ، وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ فِي الشَّرْعِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ آيَةِ اللَّيْلِ لَا مِنْ جِهَةِ آيَةِ النَّهَارِ وَكُلَّ شَيْءٍ مِمَّا تَفْتَقِرُونَ إِلَيْهِ فِي دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ فَصَّلْناهُ بَيَّنَّاهُ تَبْيِينًا غَيْرَ مُلْتَبِسٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ نَصْبَ وَكُلَّ شَيْءٍ عَلَى الِاشْتِغَالِ، وَكَانَ ذَلِكَ أَرْجَحَ مِنَ الرَّفْعِ لِسَبْقِ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ وَكُلَّ شَيْءٍ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَالْحِسابَ وَالطَّائِرَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا قُدِّرَ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَخَاطَبَ اللَّهُ الْعَرَبَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا تَعْرِفُ إِذْ كَانَ مِنْ عَادَتِهَا التَّيَمُّنُ وَالتَّشَاؤُمُ بِالطَّيْرِ فِي كَوْنِهَا سَانِحَةً وَبَارِحَةً وَكَثُرَ ذَلِكَ حَتَّى فَعَلَتْهُ بِالظِّبَاءِ وَحَيَوَانِ الْفَلَاةِ، وَسُمِّيَ ذَلِكَ كُلُّهُ تَطَيُّرًا. وَكَانَتْ تَعْتَقِدُ أَنَّ تِلْكَ الطِّيَرَةَ قَاضِيَةٌ بِمَا يَلْقَى الْإِنْسَانُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، فَأَخْبَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَوْجَزِ لَفْظٍ وَأَبْلَغِ إِشَارَةٍ أَنَّ جَمِيعَ ما يلقى الإنسان من خَيْرٍ وَشَرٍّ فَقَدْ سَبَقَ بِهِ الْقَضَاءُ وَأُلْزِمَ حَظُّهُ وَعَمَلُهُ وَمَكْسَبُهُ فِي عُنُقِهِ، فَعَبَّرَ عَنِ الْحَظِّ وَالْعَمَلِ إِذْ هُمَا مُتَلَازِمَانِ بِالطَّائِرِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ بِحَسَبِ مُعْتَقَدِ الْعَرَبِ فِي التَّطَيُّرِ، وَقَوْلِهِمْ فِي الْأُمُورِ عَلَى الطَّائِرِ الْمَيْمُونِ وَبِأَسْعَدِ طَائِرٍ، وَمِنْهُ مَا طَارَ فِي الْمُحَاصَّةِ وَالسَّهْمِ، وَمِنْهُ فَطَارَ لَنَا مِنَ الْقَادِمِينَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ أَيْ كَانَ ذَلِكَ حَظَّنَا.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: طائِرَهُ عَمَلَهُ، وَعَنِ السُّدِّيِّ كِتَابَهُ الَّذِي يَطِيرُ إِلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ: الطَّائِرُ عِنْدَ الْعَرَبِ الْحَظُّ وَهُوَ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْبَخْتَ. وَعَنِ الْحَسَنِ: يَا ابْنَ آدَمَ بُسِطَتْ لَكَ صَحِيفَةٌ إِذَا بُعِثْتَ قُلِّدْتَهَا فِي عُنُقِكَ، وَخُصَّ الْعُنُقُ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الزِّينَةِ وَالشَّيْنِ فَإِنْ كَانَ خَيْرًا زَانَهُ كَمَا يُزَيِّنُ الطَّوْقُ وَالْحُلِيُّ، وَإِنْ كَانَ شَرًّا شَانَهُ كَالْغُلِّ فِي الرَّقَبَةِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ طَيْرَهُ. وقرىء: فِي عُنُقِهِ بِسُكُونِ النُّونِ. وقرأ الجمهور ومنهم أبو جعفر: