أَتُصَدِّقُهُ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: إِنِّي لَأُصَدِّقُهُ عَلَى أَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ، فَسُمِّيَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ سَافَرَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فَاسْتَنْعَتُوهُ، فَجُلِّيَ لَهُ بَيْتُ الْمَقْدِسِ فَطَفِقَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَيَنْعَتُهُ لَهُمْ، فَقَالُوا: أَمَّا النَّعْتُ فَقَدْ أَصَابَ فَقَالُوا: أَخْبِرْنَا عَنْ عِيرِنَا، فَأَخْبَرَهُمْ بِعَدَدِ جِمَالِهَا وَأَحْوَالِهَا وَقَالَ: «تَقْدَمُ يَوْمَ كَذَا مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يَقْدُمُهَا جَمَلٌ أَوْرَقُ» فَخَرَجُوا يَشْتَدُّونَ ذَلِكَ الْيَوْمَ نَحْوَ الثَّنِيَّةِ. فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: وَاللَّهِ هَذِهِ الشَّمْسُ قَدْ شَرَقَتْ. وَقَالَ آخَرُ:
وَهَذِهِ وَاللَّهِ الْعِيرُ قَدْ أَقْبَلَتْ يَقْدُمُهَا جَمَلٌ أَوْرَقُ كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنُوا وَقَالُوا: مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ بَيِّنٌ، وَقَدْ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَكَانَ الْعُرُوجُ بِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ
، وَأَخْبَرَ قُرَيْشًا أَيْضًا بِمَا رَأَى فِي السَّمَاءِ مِنَ الْعَجَائِبِ، وَأَنَّهُ لَقِيَ الْأَنْبِيَاءَ وَبَلَغَ الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ وَسِدْرَةَ الْمُنْتَهَى. وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: أن هَذِهِ اللَّيْلَةَ هِيَ لَيْلَةُ الْمِعْرَاجِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَمَاعَةٍ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ هِيَ غَيْرُ لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ.
والْمَسْجِدِ الْأَقْصَى مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَسُمِّيَ الْأَقْصَى لِأَنَّهُ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَقْصَى بُيُوتِ اللَّهِ الْفَاضِلَةِ مِنَ الْكَعْبَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْأَقْصَى الْبَعِيدَ دُونَ مُفَاضَلَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سِوَاهُ، وَيَكُونَ الْمَقْصِدُ إِظْهَارَ الْعَجَبِ فِي الْإِسْرَاءِ إِلَى هَذَا الْبُعْدِ فِي لَيْلَةٍ انْتَهَى. وَلَفْظَةُ: إِلَى تَقْتَضِي أَنَّهُ انْتَهَى الْإِسْرَاءُ بِهِ إِلَى حَدِّ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ وَلَا يَدُلُّ مِنْ حَيْثُ الْوَضْعُ عَلَى دُخُولِهِ.
والَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ صِفَةُ مَدْحٍ لِإِزَالَةِ اشْتِرَاطٍ عَارِضٍ وَبَرَكَتُهُ بِمَا خُصَّ بِهِ مِنَ الْخَيْرَاتِ الدِّينِيَّةِ كَالنُّبُوَّةِ وَالشَّرَائِعِ وَالرُّسُلِ الَّذِينَ كَانُوا فِي ذَلِكَ الْقُطْرِ وَنَوَاحِيهِ وَنَوَادِيهِ، وَالدُّنْيَاوِيَّةِ مِنْ كَثْرَةِ الْأَشْجَارِ وَالْأَنْهَارِ وَطِيبِ الْأَرْضِ.
وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّهُ تَعَالَى بَارَكَ فِيمَا بَيْنَ الْعَرِيشِ إِلَى الْفُرَاتِ وَخَصَّ فِلَسْطِينَ بِالتَّقْدِيسِ» .
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لِنُرِيَهُ بِالنُّونِ وَهُوَ الْتِفَاتٌ مِنْ ضَمِيرِ الْغَائِبِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، وَقِرَاءَةُ الْحَسَنِ لِيُرِيَهُ بِالْيَاءِ فَيَكُونُ الِالْتِفَاتُ فِي آيَاتِنَا وَهَذِهِ رُؤْيَا عَيْنٍ وَالْآيَاتُ الَّتِي أُرِيَهَا هِيَ الْعَجَائِبُ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا النَّاسَ
وَإِسْرَاؤُهُ مِنْ مَكَّةَ وَعُرُوجُهُ إِلَى السَّمَاءِ وَوَصْفُهُ الْأَنْبِيَاءَ وَاحِدًا وَاحِدًا حَسْبَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ لِيُرِيَ مُحَمَّدًا لِلنَّاسِ آيَةً، أَيْ يَكُونُ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ آيَةً فِي أَنْ يَصْنَعَ اللَّهُ بِبَشَرٍ هَذَا الصُّنْعَ فَتَكُونُ الرُّؤْيَةُ عَلَى هَذَا رُؤْيَةَ الْقَلْبِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لِأَقْوَالِ مُحَمَّدٍ الْبَصِيرُ بِأَفْعَالِهِ الْعَالِمُ بِتَهْذِيبِهَا