الْكافِرِينَ أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى نِسْبَتَهُمْ إِلَى الِافْتِرَاءِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَأَنَّ مَا أَتَى بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ إِيَّاهُ بَشَرٌ، كَانَ ذَلِكَ تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ بِانْتِفَاءِ الْإِيمَانِ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ أَبَدًا إِذْ كَانُوا جَاحِدِينَ آيَاتِ اللَّهِ، وَهُوَ مَا أَتَى بِهِ الرَّسُولُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَخُصُوصًا الْقُرْآنُ، فَمَنْ بَالَغَ فِي جَحْدِ آيَاتِ اللَّهِ سَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ الْهِدَايَةِ. وَذَكَرَ تَعَالَى وَعِيدَهُ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ لَهُمْ، وَمَعْنَى لَا يَهْدِيهِمْ: لَا يَخْلُقُ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ. وَهَذَا عَامٌّ مَخْصُوصٌ، فَقَدِ اهْتَدَى قَوْمٌ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ لَا يَلْطُفُ بِهِمْ، لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْخِذْلَان فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابِ فِي الآخرة، لَا مِنْ أَهْلِ اللُّطْفِ وَالثَّوَابِ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَفْهُومُ مِنَ الْوُجُودِ أَنَّ الَّذِينَ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِهِ، وَلَكِنَّهُ قَدَّمَ فِي هَذَا الترتيب وأخبرتهما بِتَقْبِيحِ فِعْلِهِمْ وَالتَّشْنِيعِ بِخَطَئِهِمْ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ (?) وَالْمُرَادُ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا لَمْ يَهْدِهِمُ اللَّهُ انْتَهَى. وَقَالَ الْقَاضِي: أَقْوَى مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ لَا يَهْدِيهِمْ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهُ: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَمَّا تَرَكُوا الْإِيمَانَ بِاللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ إِلَى الْجَنَّةِ بَلْ يَسُوقُهُمْ إِلَى النَّارِ. وَقَالَ الْعَسْكَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذِهِ الْآيَاتِ لَمْ يَهْتَدُوا، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ أَيْ لَا يَهْتَدُونَ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: هَدَى اللَّهُ فُلَانًا عَلَى الْإِطْلَاقِ إِذَا اهْتَدَى هُوَ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَقْبَلِ الْهُدَى فَإِنَّهُ يُقَالُ: إِنَّ اللَّهَ هَدَاهُ فَلَمْ يَهْتَدِ، كَمَا قَالَ: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى (?) ثُمَّ رَدَّ تَعَالَى قَوْلَهُمْ: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ (?) بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ، أَيْ إِنَّمَا يَلِيقُ افْتِرَاءُ الْكَذِبِ بِمَنْ لَا يُؤْمِنُ، لِأَنَّهُ يَتَرَقَّبُ عِقَابًا عَلَيْهِ. وَلَمَّا كَانَ فِي كَلَامِهِمْ إِنَّمَا وَهُوَ يَقْتَضِي الْحَصْرَ عِنْد بَعْضِهِمْ، جَاءَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ بِإِنَّمَا أَيْضًا، وَجَاءَ بِلَفْظِ يَفْتَرِي الَّذِي يَقْتَضِي التَّجَدُّدَ، ثُمَّ عَلَّقَ الْحُكْمَ عَلَى الْوَصْفِ الْمُقْتَضِي لِلِافْتِرَاءِ وَهُوَ: انْتِفَاءُ الْإِيمَانِ، وَخَتَمَ بِقَوْلِهِ: وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ. فَاقْتَضَى التَّوْكِيدَ الْبَالِغَ وَالْحَصْرَ بِلَفْظِ الْإِشَارَةِ، وَالتَّأْكِيدَ بِلَفْظِ هُمُ، وَإِدْخَالِ الْ عَلَى الْكَاذِبُونَ، وَبِكَوْنِهِ اسْمَ فَاعِلٍ يَقْتَضِي الثُّبُوتَ وَالدَّوَامَ، فَجَاءَ يَفْتَرِي يَقْتَضِي التَّجَدُّدَ، وَجَاءَ الْكَاذِبُونَ يَقْتَضِي الثُّبُوتَ وَالدَّوَامَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأُولَئِكَ إشارة