رَأَيْتُ ذَوِي الْحَاجَّاتِ حَوْلَ بيوتهم ... قطينا بهم حَتَّى إِذَا أَنْبَتَ الْبَقْلُ
أَيْ نَبَتَ. وَكَانَ الْأَصْمَعِيُّ يَأْبَى أَنْبَتَ بِمَعْنَى نَبَتَ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ: نُنْبِتُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: نُنَبِّتُ بِالتَّشْدِيدِ قِيلَ: لِلتَّكْثِيرِ وَالتَّكْرِيرِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ تَضْعِيفُ التَّعْدِيَةِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: يَنْبُتُ مِنْ نَبَتَ وَرَفَعَ الزرع وما عطف عليه. وَخَصَّ الْأَرْبَعَةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَشْرَفُ مَا يَنْبُتُ، وَأَجْمَعُهُ لِلْمَنَافِعِ. وَبَدَأَ بِالزَّرْعِ لِأَنَّهُ قُوتُ أَكْثَرِ الْعَالَمِ، ثُمَّ بِالزَّيْتُونِ لِمَا فِيهِ مِنْ فَائِدَةِ الِاسْتِصْبَاحِ بِدُهْنِهِ، وَهِيَ ضَرُورِيَّةٌ مَعَ مَنْفَعَةِ أَكْلِهِ وَالِائْتِدَامِ بِهِ وَبِدَهْنِهِ، وَالِاطِّلَاءِ بِدُهْنِهِ، ثُمَّ بِالنَّخْلِ لِأَنَّ ثَمَرَتَهُ مِنْ أَطْيَبِ الْفَوَاكِهِ وَقُوتٌ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ، ثُمَّ بِالْأَعْنَابِ لِأَنَّهَا فَاكِهَةٌ مَحْضَةٌ ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ، أَتَى بِلَفْظِ مِنْ الَّتِي لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّ كُلَّ الثَّمَرَاتِ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا أُنْبِتَ فِي الْأَرْضِ بَعْضٌ مِنْ كُلِّهَا لِلتَّذْكِرَةِ. وَلَمَّا ذَكَرَ الْحَيَوَانَاتِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ: وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ، كَذَلِكَ هُنَا ذَكَرَ الْأَنْوَاعَ الْمُنْتَفَعَ بِهَا مِنَ النَّبَاتِ، ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ تَفْصِيلَ الْقَوْلِ فِي أَجْنَاسِهَا وَأَنْوَاعِهَا وَصِفَاتِهَا وَمَنَافِعهَا مِمَّا لَا يَكَادُ يُحْصَرُ، كَمَا أَنَّ تَفْصِيلَ مَا خَلَقَ مِنْ بَاقِي الْحَيَوَانِ لَا يَكَادُ يُحْصَرُ. وَخَتَمَ ذَلِكَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، لِأَنَّ النَّظَرَ فِي ذَلِكَ يَحْتَاجُ إِلَى فَضْلِ تَأَمُّلٍ وَاسْتِعْمَالِ فِكْرٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَبَّةَ الْوَاحِدَةَ إِذَا وُضِعَتْ فِي الْأَرْضِ وَمَرَّ عَلَيْهَا مِقْدَارٌ مِنَ الزَّمَانِ مُعَيَّنٌ لَحِقَهَا مِنْ نَدَاوَةِ الْأَرْضِ مَا تَنْتَفِخُ بِهِ، فَيَنْشَقُّ أَعْلَاهَا فَيَصْعَدُ مِنْهُ شَجَرَةٌ إِلَى الْهَوَاءِ، وَأَسْفَلُهَا يَغُوصُ مِنْهُ فِي عُمْقِ الْأَرْضِ شَجَرَةٌ أُخْرَى وَهِيَ الْعُرُوقُ، ثُمَّ يَنْمُو الْأَعْلَى وَيَقْوَى، وَتَخْرُجُ الْأَوْرَاقُ وَالْأَزْهَارُ وَالْأَكْمَامُ، وَالثِّمَارُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى أَجْسَامٍ مُخْتَلِفَةِ الطَّبَائِعِ وَالطُّعُومِ وَالْأَلْوَانِ وَالرَّوَائِحِ وَالْأَشْكَالِ وَالْمَنَافِعِ، وَذَلِكَ بِتَقْدِيرِ قَادِرٍ مُخْتَارٍ وَهُوَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالشَّمْسَ وَمَا بَعْدَهُ مَنْصُوبًا، وَانْتَصَبَ مُسَخَّرَاتٍ عَلَى أَنَّهَا حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ إِنْ كَانَ مُسَخَّرَاتٍ اسْمَ مَفْعُولٍ، وَهُوَ إِعْرَابُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يكون الْمَعْنَى: أَنَّهُ سَخَّرَهَا أَنْوَاعًا مِنَ التَّسْخِيرِ جَمْعُ مُسَخَّرٍ بِمَعْنَى: تَسْخِيرٍ مِنْ قَوْلِكَ: سَخَّرَهُ اللَّهُ مُسَخَّرًا، كَقَوْلِكَ: سَرَّحَهُ مُسَرَّحًا، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَسَخَّرَهَا لَكُمْ تَسْخِيرَاتٍ بِأَمْرِهِ انْتَهَى. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: والشمس وَمَا بَعْدَهُ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ، وَحَفْصٌ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِرَفْعِهِمَا، وَهَاتَانِ الْقِرَاءَتَانِ يُبْعِدَانِ قَوْلَ الزَّمَخْشَرِيِّ إِنَّ مُسَخَّرَاتٍ بِمَعْنَى تَسْخِيرَاتٍ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَابْنُ مُصَرِّفٍ: وَالرِّيَاحُ مُسَخَّرَاتٌ فِي مَوْضِعِ، وَالنُّجُومُ وَهِيَ مُخَالَفَةٌ لِسَوَادِ الْمُصْحَفِ. وَالظَّاهِرُ فِي قِرَاءَةِ نَصْبِ الْجَمِيعِ أَنَّ وَالنُّجُومَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ. وَقَالَ