فَلَا تَحْسَبَنَّ أَنِّي أَضِلُّ مَنِيَّتِي ... فَكُلُّ امْرِئٍ كَأْسَ الْحِمَامِ يَذُوقُ
وَهَذَا الْوَعْدُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا (?) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي (?) وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِإِضَافَةِ مُخْلِفَ إِلَى وَعْدِهِ، وَنَصْبِ رُسُلَهُ. وَاخْتُلِفَ فِي إعرابه فقال الجمهور والفراء، وَقُطْرُبٌ، وَالْحَوْفِيُّ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ، وَابْنُ عَطِيَّةَ، وَأَبُو الْبَقَاءِ: إِنَّهُ مِمَّا أُضِيفَ فِيهِ اسْمُ الْفَاعِلِ إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي كَقَوْلِهِمْ: هَذَا مُعْطِي دِرْهَمٍ زَيْدًا، لَمَّا كَانَ يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ جَازَتْ إِضَافَتُهُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَيَنْتَصِبُ مَا تَأَخَّرَ. وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ نَظِيرًا لَهُ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
تَرَى الثَّوْرَ فِيهَا مُدْخِلَ الظِّلِّ رَأْسَهُ ... وَسَائِرُهُ بَادٍ إِلَى الشَّمْسِ أَجْمَعَ
وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: هُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: يَا سَارِقَ اللَّيْلَةِ أَهْلَ الدَّارِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَقُطْرُبٌ: لَمَّا تَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَيْهِمَا جَمِيعًا لَمْ يُبَالِ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : هَلَّا قِيلَ مُخْلِفَ رُسُلِهِ وَعْدَهُ، وَلِمَ قَدَّمَ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ عَلَى الْأَوَّلِ؟ (قُلْتُ) : قَدَّمَ الْوَعْدَ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْوَعْدَ أَصْلًا لِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (?) ثُمَّ قَالَ: رُسُلَهُ، لِيُؤْذِنَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُخْلِفْ وَعْدَهُ أَحَدًا، وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ إِخْلَافُ الْمَوَاعِيدِ، كَيْفَ يَخْلُفُهُ رُسُلُهُ الَّذِينَ هُمْ خِيرَتُهُ وَصَفْوَتُهُ؟ انْتَهَى. وَهُوَ جَوَابٌ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ فِي أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، فَمَنْ وَعَدَهُ بِالنَّارِ مِنَ الْعُصَاةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ أَصْلًا. وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ كُلَّ مَا وَعَدَ مِنَ الْعَذَابِ لِلْعُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ مَشْرُوطٌ إِنْفَاذُهُ بِالْمَشِيئَةِ. وَقِيلَ: مُخْلِفُ هُنَا مُتَعَدٍّ إِلَى وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ: لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (?) فَأُضِيفَ إِلَيْهِ، وَانْتَصَبَ رُسُلَهُ بِوَعْدِهِ إِذْ هُوَ مَصْدَرٌ يَنْحَلُّ بِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ وَالْفِعْلِ كَأَنَّهُ قَالَ: مُخْلِفَ مَا وَعَدَ رُسُلَهُ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، لَا بِمَعْنَى الَّذِي.
وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: مُخْلِفٌ وَعْدَهُ رُسُلِهِ بِنَصْبِ وَعْدَهُ، وَإِضَافَةِ مُخْلِفَ إِلَى رُسُلِهِ، فَفَصَلَ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ بِالْمَفْعُولِ، وَهُوَ كَقِرَاءَةِ: قَتْلُ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَائِهِمْ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُشَبَّعًا فِي الْأَنْعَامِ. وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تُؤَيَّدُ إِعْرَابَ الْجُمْهُورِ فِي الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، وَأَنَّهُ مِمَّا تَعَدَّى فِيهِ مُخْلِفَ إِلَى مَفْعُولَيْنِ. أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلَا يُغَالَبُ ذُو انْتِقَامٍ مِنَ الْكَفَرَةِ لَا يَعْفُو عَنْهُمْ. وَالتَّبْدِيلُ يَكُونُ فِي الذَّاتِ أَيْ: تَزُولُ ذَاتٌ وَتَجِيءُ أُخْرَى. وَمِنْهُ: بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها (?) وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ (?) وَيَكُونُ فِي الصِّفَاتِ كَقَوْلِكَ: بَدَّلْتُ