وَارْتَفَعَ سَلَامٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وعليكم الْخَبَرُ، وَالْجُمْلَةُ مَحْكِيَّةٌ بِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ:
يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ تَحِيَّةُ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: بِمَا صَبَرْتُمْ، خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: هَذَا الثَّوَابُ بِسَبَبِ صَبْرِكُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى الْمَشَاقِّ، أَوْ تَكُونُ الْبَاءُ بِمَعْنَى بَدَلٍ أَيْ: بَدَلَ صَبْرِكُمْ أَيْ: بَدَلَ مَا احْتَمَلْتُمْ مِنْ مَشَاقِّ الصَّبْرِ، هَذِهِ الْمَلَاذُ وَالنِّعَمُ. وَقِيلَ: سَلَامٌ جَمْعُ سَلَامَةٍ أَيْ: إِنَّمَا سَلَّمَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِصَبْرِكُمْ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يتعلق بسلام أَيْ: يُسَلِّمُ عَلَيْكُمْ وَيُكْرِمُكُمْ بِصَبْرِكُمْ، وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ أَيْ: فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ الجنة من جهنم، والدار: تَحْتَمِلُ الدُّنْيَا وَتَحْتَمِلُ الْآخِرَةَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْمَعْنَى أَنَّ عَقَّبُوا الْجَنَّةَ مِنْ جَهَنَّمَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا التَّأْوِيلُ مَبْنِيٌّ عَلَى حَدِيثٍ وَرَدَ وَهُوَ: «أَنَّ كُلَّ رَجُلٍ فِي الْجَنَّةِ قَدْ كَانَ لَهُ مَقْعَدٌ مَعْرُوفٌ فِي النَّارِ، فَصَرَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إِلَى النَّعِيمِ فَيُعْرَضُ عَلَيْهِ وَيُقَالُ لَهُ:
هَذَا مَكَانُ مَقْعَدِكَ، فَبَدَّلَكَ اللَّهُ مِنْهُ الْجَنَّةَ بِإِيمَانِكَ وَطَاعَتِكَ وَصَبْرِكَ» انْتَهَى. وَلَمَّا كَانَ الصَّبْرُ هُوَ الَّذِي نَشَأَ عَنْهُ تِلْكَ الطَّاعَاتُ السَّابِقَةُ، ذَكَرَتِ الْمَلَائِكَةُ أَنَّ النَّعِيمَ السَّرْمَدِيَّ إِنَّمَا هُوَ حَاصِلٌ بِسَبَبِ الصَّبْرِ، وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ بِالْإِيفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَلَا بِغَيْرِ ذَلِكَ.
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ. اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ: قَالَ مُقَاتِلٌ نَزَلَتْ: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ اللَّهُ يَبْسُطُ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ، وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ السُّعَدَاءِ وَمَا تَرَتَّبَ لَهُمْ مِنَ الْأُمُورِ السُّنِّيَّةِ الشَّرِيفَةِ، ذَكَرَ حَالَ الْأَشْقِيَاءِ وَمَا تَرَتَّبَ لَهُمْ مِنَ الْأُمُورِ الْمُخْزِيَةِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ الْآيَةِ فِي أَوَائِلِ الْبَقَرَةِ (?) وَتَرَتَّبَ لِلسُّعَدَاءِ هُنَاكَ التَّصْرِيحُ بعقبى الدَّارِ وَهِيَ الْجَنَّةُ، وَإِكْرَامِ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ بِالسَّلَامِ، وَذَلِكَ غَايَةُ الْقُرْبِ وَالتَّأْنِيسِ. وَهُنَا تَرَتَّبَ لِلْأَشْقِيَاءِ الْإِبْعَادُ مِنْ رحمة الله. وسوء الدَّارِ أَيْ: الدَّارُ السُّوءُ وهي النار، وسوء عَاقِبَةُ الدَّارِ، وَتَكُونُ دَارَ الدُّنْيَا.
وَلَمَّا كَانَ كَثِيرٌ مِنْ الْأَشْقِيَاءِ فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ نِعَمُ الدُّنْيَا وَلَذَّاتُهَا أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ، وَالْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ لَا تَعَلُّقَ لَهُمَا بِالرِّزْقِ. قَدْ يَقْدِرُ عَلَى الْمُؤْمِنِ لِيَعْظُمَ أَجْرُهُ، وَيَبْسُطُ لِلْكَافِرِ إِمْلَاءً لازدياد آثامه. ويقدر مُقَابِلُ يَبْسُطُ، وَهُوَ التَّضْيِيقُ من قوله: