فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا اتَّبَعُوا فِي ذَلِكَ آبَاءَهُمْ تَقْلِيدًا لَهُمْ وَإِعْرَاضًا عَنْ حُجَجِ الْعُقُولِ.
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ: لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى إِصْرَارَ كُفَّارِ مَكَّةَ عَلَى إِنْكَارِ التَّوْحِيدِ وَنُبُوَّةِ الرَّسُولِ وَالْقُرْآنِ الَّذِي أَتَى بِهِ، بَيَّنَ أَنَّ الْكُفَّارَ مِنَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ كَانُوا عَلَى هَذِهِ السِّيرَةِ الْفَاجِرَةِ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ، فَلَيْسَ ذلك ببدع من من عاصر الرسول صلى الله عليه وسلّم، وَضَرَبَ لِذَلِكَ مَثَلًا وَهُوَ: إِنْزَالِ التَّوْرَاةِ عَلَى مُوسَى فَاخْتَلَفُوا فِيهَا. وَالْكِتَابُ هُنَا التَّوْرَاةُ، فَقَبِلَهُ بَعْضٌ، وَأَنْكَرَهُ بَعْضٌ، كَمَا اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي الْقُرْآنِ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِيهِ عَلَى الْكِتَابِ لِقُرْبِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَيَلْزَمُ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي أَحَدِهِمَا الِاخْتِلَافُ فِي الْآخَرِ. وَجُوِّزَ أَنْ تَكُونَ فِي بِمَعْنَى عَلَى، أَيْ: فَاخْتُلِفَ عَلَيْهِ، وَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ تَعَنُّتًا عَلَى مُوسَى وَأَكْثَرَ اخْتِلَافًا عَلَيْهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ (?) وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي بَيْنَهُمْ عَلَى قَوْمِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِذْ هُمُ الْمُخْتَلِفُونَ فِيهِ، أَوْ فِي الْكِتَابِ.
وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمُخْتَلِفِينَ فِي الرَّسُولِ مِنْ مُعَاصِرِيهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّفْظُ أَحْسَنُ عِنْدِي، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ جُمْلَةِ تَسْلِيَتِهِ أَيْضًا.
وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ: الظَّاهِرُ عُمُومُ كُلٍّ وَشُمُولُهُ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ. وَقَالَ الزمخشري: التنوين عوض من الْمُضَافِ إِلَيْهِ يَعْنِي: وَإِنَّ كُلَّهُمْ، وَإِنَّ جَمِيعَ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي بِهِ كُفَّارَ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو بَكْرٍ: وَإِنْ كُلًّا بِتَخْفِيفِ النُّونِ سَاكِنَةً. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ: لَمَّا بِالتَّشْدِيدِ هُنَا وَفِي يس والطَّارِقِ وَأَجْمَعَتِ السَّبْعَةُ عَلَى نَصْبِ كُلًّا، فَتُصُوِّرَ فِي قِرَاءَتِهِمْ أربع قراءات: إِحْدَاهَا: تَخْفِيفُ إِنْ وَلَمَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَرَمِيَّيْنِ. وَالثَّانِيَةُ: تَشْدِيدُهُمَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ وَحَمْزَةَ وَحَفْصٍ. وَالثَّالِثَةُ: تَخْفِيفُ إِنْ وَتَشْدِيدُ لَمَّا وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي بَكْرٍ. وَالرَّابِعَةُ:
تَشْدِيدُ إِنَّ وَتَخْفِيفُ لَمَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْكِسَائِيِّ وَأَبِي عَمْرٍو. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَالْحَسَنُ بِخِلَافٍ عَنْهُ، وَأَبَانُ بْنُ ثَعْلَبٍ وَإِنْ بِالتَّخْفِيفِ كُلٌّ بِالرَّفْعِ لَمَّا مُشَدَّدًا. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَسُلَيْمَانُ بْنُ أَرْقَمَ: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَتَنْوِينِهَا، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِتَخْفِيفِ إِنَّ وَلَا تَشْدِيدِهَا. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ:
الَّذِي فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَإِنَّ مِنْ كُلٍّ إِلَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَإِنَّ كُلٌّ إِلَّا، وَهُوَ حَرْفُ