أَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ منك وأدلّك الْخَيْرَ وَصَعُبَ عَلَيْهِ إِيصَالُ مَا يُؤْذِي إِلَيْكَ وَكَوْنُهُ حَرِيصًا عَلَى هِدَايَتِهِمْ، وَهُوَ أَيْضًا مِنْ نَتَائِجِ الرِّسَالَةِ، لِأَنَّهُ بُعِثَ لِيُعْبَدَ اللَّهُ وَيُفْرَدَ بِالْأُلُوهِيَّةِ. وَكَوْنُهُ رَءُوفًا رَحِيمًا بِالْمُؤْمِنِينَ، وَهُمَا وَصْفَانِ مِنْ نَتَائِجِ التَّبَعِيَّةِ لَهُ، وَالدُّخُولِ فِي دِينِ اللَّهِ. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ (?)
«الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا حَتَّى تُحِبَّ لِأَخِيكَ الْمُؤْمِنِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ» .
وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَمَحْبُوبٌ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ قُسَيْطٍ الْمَكِّيُّ، وَيَعْقُوبُ مِنْ بَعْضِ طُرُقِهِ:
مِنْ أَنْفَسِكُمْ بِفَتْحِ الْفَاءِ. وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنْ فَاطِمَةَ
، وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَالْمَعْنَى: مِنْ أَشْرَفِكُمْ وَأَعَزِّكُمْ، وَذَلِكَ مِنَ النَّفَاسَةِ، وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى النَّفَسِ، فَإِنَّهَا أَعَزُّ الْأَشْيَاءِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا مَصْدَرِيَّةٌ فِي مَوْضِعِ الفاعل بعزيز أَيْ: يَعِزُّ عَلَيْهِ مَشَقَّتُكُمْ كَمَا قَالَ:
يُسِرُّ الْمَرْءَ مَا ذَهَبَ اللَّيَالِي ... وَكَانَ ذَهَابُهُنَّ لَهُ ذَهَابًا
أَيْ يُسِرُّ الْمَرْءَ ذَهَابُ اللَّيَالِي. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا عَنِتُّمْ مُبْتَدَأً أَيْ: عَنَتُكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ، وَقُدِّمَ خَبَرُهُ، وَالْأَوَّلُ أَعْرَبُ. وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ أَنْ يَكُونَ عَزِيزٌ مُبْتَدَأً، وما عَنِتُّمْ الْخَبَرَ، وَأَنْ تَكُونَ مَا بِمَعْنَى الَّذِي، وَأَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، وَهُوَ إِعْرَابٌ دُونَ الْإِعْرَابَيْنِ السَّابِقَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: عَزِيزٌ صِفَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا وُصِفَ بِالْعِزَّةِ لِتَوَسُّطِهِ فِي قَوْمِهِ وَعَرَاقَةِ نَسَبِهِ وَطِيبِ جُرْثُومَتِهِ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ: عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ أَيْ: يُهِمُّهُ أَمْرُكُمْ انْتَهَى. وَالْعَنَتُ: تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ لَأَعْنَتَكُمْ (?) . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُنَا مَشَقَّتُكُمْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ:
إِثْمُكُمْ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ: ضَلَالُكُمْ. وَقَالَ الْعُتْبِيُّ: مَا ضَرَّكُمْ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: مَا أَهْلَكَكُمْ. وَقِيلَ: مَا غَمَّكُمْ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُضْمَرَ فِي عَلَيْكُمْ أَيْ: عَلَى هُدَاكُمْ وَإِيمَانِكُمْ كَقَوْلِهِ: إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ (?) وَقَوْلِهِ: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (?) . وَقِيلَ: حَرِيصٌ عَلَى إِيصَالِ الْخَيْرَاتِ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ:
الْحَرِيصُ هُوَ الشَّحِيحُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ شَحِيحٌ عَلَيْكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا النَّارَ. وَقِيلَ: حَرِيصٌ عَلَى دُخُولِكُمُ الْجَنَّةَ. وَإِنَّمَا احْتِيجَ إِلَى الْإِضْمَارِ، لِأَنَّ الْحِرْصَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالذَّوَاتِ. وَيُحْتَمَلُ بالمؤمنين أن يتعلق برءوف، ويحتمل أن يتعلق برحيم، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ التَّنَازُعِ. وفي جواز