وَفِي قَوْلِهِ سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ السِّحْرَ لَا يَقْلِبُ عَيْنًا وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ التَّخَيُّلِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ أَيْ أَرْهَبُوهُمْ وَاسْتَفْعَلَ هُنَا بِمَعْنَى أَفْعَلَ كَأَبَلَّ وَاسْتَبَلَّ وَالرَّهْبَةُ الْخَوْفُ وَالْفَزَعُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَأَرْهَبُوهُمْ إِرْهَابًا شَدِيدًا كَأَنَّهُمُ اسْتَدْعَوْا رَهْبَتَهُمُ انْتَهَى، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ بِمَعْنَى وَأَرْهَبُوهُمْ فَكَانَ فِعْلُهُمُ اقْتَضَى وَاسْتَدَعَى الرَّهْبَةَ مِنَ النَّاسِ انْتَهَى وَلَا يَظْهَرُ مَا قَالَا لِأَنَّ الِاسْتِدْعَاءَ وَالطَّلَبَ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ وُقُوعُ الْمُسْتَدْعَى وَالْمَطْلُوبِ وَالظَّاهِرُ هُنَا حُصُولُ الرَّهْبَةِ فَلِذَلِكَ قُلْنَا إِنَّ اسْتَفْعَلَ فِيهِ مُوَافِقُ أَفْعَلَ وَصَرَّحَ أَبُو الْبَقَاءِ بِأَنَّ مَعْنَى اسْتَرْهَبُوهُمْ طَلَبُوا مِنْهُمُ الرَّهْبَةَ وَوَصَفَ السِّحْرَ بِعَظِيمٍ لِقُوَّةِ مَا خُيِّلَ أَوْ لِكَثْرَةِ آلَاتِهِ مِنَ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ
رُوِيَ أَنَّهُمْ جاؤوا بِحِبَالٍ مَنْ أَدَمٍ وَأَخْشَابٍ مجوفة مملوءة زيبقا وَأَوْقَدُوا فِي الْوَادِي نَارًا فَحَمِيَتْ بِالنَّارِ مِنْ تَحْتٍ وَبِالشَّمْسِ مِنْ فَوْقٍ فَتَحَرَّكَتْ وَرَكِبَ بَعْضُهَا بَعْضًا وَهَذَا مِنْ بَابِ الشَّعْبَذَةِ وَالدَّكِّ
وَرُوِيَ غَيْرُ هَذَا مِنْ حِيَلِهِمْ وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ قَالَ أَلْقُوا فَأَلْقَوْا فَلَمَّا أَلْقَوْا وَالْفَاءُ عَاطِفَةٌ عَلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ، وَقَالَ الْحَوْفِيُّ الْفَاءُ جَوَابُ الْأَمْرِ انْتَهَى، وَهُوَ لَا يُعْقَلُ مَا قَالَ وَنَقُولُ وُصِفَ بِعَظِيمٍ لِمَا ظَهَرَ مِنْ تَأْثِيرِهِ فِي الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي هِيَ الْأَعْيُنُ بِمَا لَحِقَهَا مِنْ تَخْيِيلِ الْعِصِيِّ وَالْحِبَالِ حَيَّاتٌ وَفِي الْأَعْضَاءِ الْبَاطِنَةِ الَّتِي هِيَ الْقُلُوبُ بِمَا لَحِقَهَا مِنَ الْفَزَعِ وَالْخَوْفِ. وَلَمَّا كَانَتِ الرَّهْبَةُ نَاشِئَةً عَنْ رُؤْيَةِ الْأَعْيُنِ تَأَخَّرَتِ الْجُمْلَةُ الدَّالَّةُ عَلَيْهَا.
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121)
رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122) قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126)
وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131)
وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (136)
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا مَا كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (139)