مِنْ كَوْنِهِمَا إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَجَرَتْ تِلْكَ الْمُحَاوَرَةُ وَذَكَرَ ثَوَابَ مَا لِلصَّادِقِينَ، وَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِأَنَّ لَهُ مُلْكَ السموات وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، ذَكَرَ بِأَنَّ الْحَمْدَ لَهُ الْمُسْتَغْرِقَ جَمِيعَ الْمَحَامِدِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَثْبُتَ مَعَهُ شريك في الإلهية فَيُحْمَدَ، ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ والمقتضية، كون ملك السموات وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ لَهُ بِوَصْفِ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لِأَنَّ الْمُوجِدَ لِلشَّيْءِ الْمُنْفَرِدَ بِاخْتِرَاعِهِ لَهُ الِاسْتِيلَاءُ وَالسَّلْطَنَةُ عَلَيْهِ.
وَلَمَّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُمْ فِي عِيسَى وَكُفْرُهُمْ بِذَلِكَ وَذِكْرُ الصَّادِقِينَ وَجَزَاءُهُمْ أَعْقَبَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ فَكَانَ ذَلِكَ مُنَاسِبًا لِلْكَافِرِ وَالصَّادِقِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْحَمْدُ لِلَّهِ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ وَتَفْسِيرُ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ (?) فِي الْبَقَرَةِ وَجَعَلَ هُنَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَا يَجُوزُ غَيْرُ ذَلِكَ وتأمل لم خصت السموات والأرض بخلق والظلمات والنور بجعل. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ جَعَلَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى أَحْدَثَ وَأَنْشَأَ، كَقَوْلِهِ: جَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ وَإِلَى مَفْعُولَيْنِ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى صَيَّرَ كَقَوْلِهِ: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً (?) وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْخَلْقِ وَالْجَعْلِ، أَنَّ الْخَلْقَ فِيهِ مَعْنَى التَّقْدِيرِ وَفِي الْجَعْلِ مَعْنَى التَّصْيِيرِ كَإِنْشَاءٍ مِنْ شَيْءٍ أَوْ تَصْيِيرِ شَيْءٍ شَيْئًا أَوْ نَقْلِهِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَمِنْ ذَلِكَ ... وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها (?) وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ لِأَنَّ الظُّلُمَاتِ مِنَ الْأَجْرَامِ الْمُتَكَاثِفَةِ وَالنُّورَ مِنَ النَّارِ وجعلناكم أَزْوَاجًا أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ جَعَلَ بِمَعْنَى صَيَّرَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُصَيِّرُوهُمْ إِنَاثًا، وَإِنَّمَا قَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: إِنَّهَا بِمَعْنَى سَمَّى وَقَوْلُ الطَّبَرِيِّ جَعَلَ هُنَا هِيَ الَّتِي تَتَصَرَّفُ فِي طَرَفِ الْكَلَامِ كَمَا تَقُولُ: جَعَلْتُ أَفْعَلُ كَذَا فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَجَعْلُ إِظْلَامِهَا وَإِنَارَتِهَا تَخْلِيطٌ، لِأَنَّ تِلْكَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ تَدْخُلُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ وَهَذِهِ الَّتِي فِي الْآيَةِ تَعَدَّتْ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، فَهُمَا مُتَبَايِنَانِ مَعْنًى وَاسْتِعْمَالًا وَنَاسَبَ عَطْفُ الصِّلَةِ الثَّانِيَةِ بِمُتَعَلِّقِهَا مِنْ جَمْعِ الظُّلُمَاتِ وَإِفْرَادِ النُّورِ عَلَى الصِّلَةِ الأولى المتعلقة بجمع السموات وَإِفْرَادِ الْأَرْضِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ الْكَلَامُ عَلَى جَمْعِ السموات وَإِفْرَادِ الْأَرْضِ وَجَمْعِ الظُّلُمَاتِ وَإِفْرَادِ النُّورِ وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ هُنَا بِ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ فَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَالْجُمْهُورُ: اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الشِّرْكُ وَالنِّفَاقُ وَالْكُفْرُ وَالنُّورُ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ وَالنُّبُوَّةُ وَالْيَقِينُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الكفر