انْتَهَى. وَلَمَّا دَعَوْا رَبَّهُمْ أَجَابَ كَثِيرًا مِنْهُمْ فِي الْخُرُوجِ، فَهَاجَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَفَرَّ بَعْضُهُمْ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَبَقِيَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْفَتْحِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَجَابَ دُعَاءَهُمْ، فَجَعَلَ لَهُمْ مِنْ لَدُنْهُ خَيْرَ وَلِيٍّ وَنَاصِرٍ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم، فَتَوَلَّاهُمْ أَحْسَنَ التَّوَلِّي، وَنَصَرَهُمْ أَقْوَى النَّصْرِ. وَلَمَّا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ وَلَّى عَلَيْهِمْ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ وَعُمْرُهُ أحد وَعِشْرُونَ سَنَةً، فَرَأَوْا مِنْهُ الْوِلَايَةَ وَالنَّصْرَ كَمَا سَأَلُوا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ يُنْصِفُ الضَّعِيفَ مِنَ الْقَوِيِّ، حتى كانوا أعزبها مِنَ الظَّلَمَةِ.
الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً لَمَّا أَمَرَ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ أَوَّلًا بِالنَّفْرِ إِلَى الْجِهَادِ (?) ، ثُمَّ ثَانِيًا بِقَوْلِهِ: فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ (?) ثُمَّ ثَالِثًا عَلَى طَرِيقِ الْحَثِّ وَالْحَضِّ بِقَوْلِهِ: وَما لَكُمْ لَا تُقاتِلُونَ (?) أَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالتَّقْسِيمِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ هُوَ الَّذِي يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَنَّ الْكَافِرَ هُوَ الَّذِي يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ، لِيُبَيِّنَ لِلْمُؤْمِنِينَ فَرْقَ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ، وَيُقَوِّيَهُمْ بِذَلِكَ وَيُشَجِّعَهُمْ وَيُحَرِّضَهُمْ. وَإِنَّ مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هُوَ الَّذِي يَغْلِبُ، لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ وَلِيُّهُ وَنَاصِرُهُ. وَمَنْ قَاتَلَ في سبيل الطاغوت فهو المخذوف الْمَغْلُوبُ.
وَالطَّاغُوتُ هُنَا الشَّيْطَانُ لِقَوْلِهِ: فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ. وَهُنَا مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: فَقَاتِلُوا أولياء الشيطان فإنكم تغلبونهم لِقُوَّتِكُمْ بِاللَّهِ، ثُمَّ عَلَّلَ هَذَا الْمَحْذُوفَ وَهُوَ غَلَبَتُكُمْ إِيَّاهُمْ بِأَنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ ضَعِيفٌ، فَلَا يُقَاوِمُ نَصْرَ اللَّهِ وَتَأْيِيدَهُ، وَشَتَّانَ بَيْنِ عَزْمٍ يَرْجِعُ إِلَى إِيمَانٍ بِاللَّهِ وَبِمَا وَعَدَ عَلَى الْجِهَادِ، وَعَزْمٍ يَرْجِعُ إِلَى غرور وأماني كَاذِبَةٍ. وَدَخَلَتْ كَانَ فِي قَوْلِهِ: كَانَ ضَعِيفًا إِشْعَارًا بِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ سَابِقٌ لِكَيْدِ الشَّيْطَانِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ ضَعِيفًا. وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى صَارَ أَيْ: صَارَ ضَعِيفًا بِالْإِسْلَامِ. وَقَوْلُ مَنْ زَعَمَ: أَنَّهَا زَائِدَةٌ، لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ:
أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ سَيَظْهَرُونَ عَلَيْهِمْ، فَلِذَلِكَ كَانَ ضَعِيفًا.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً
خَرَّجَ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَأَصْحَابًا لَهُ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ فَقَالُوا:
يَا نَبِيَّ اللَّهِ كُنَّا فِي عِزٍّ وَنَحْنُ مُشْرِكُونَ، فَلَمَّا آمَنَّا صِرْنَا أَذِلَّةً. فَقَالَ: إِنِّي أُمِرْتُ بِالْعَفْوِ فَلَا تُقَاتِلُوا الْقَوْمَ، فَلَمَّا حَوَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْمَدِينَةِ أَمَرَهُ بِالْقِتَالِ فَكَفُّوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.