وَيَصِيرُ الْإِيجَابُ بَعْدَ النَّفْيِ يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ، فَلَا إِذْ تَكُونُ إِلَّا وَمَا بَعْدَهَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، جِيءَ بِهَا لَغْوًا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، إِذِ الِانْتِفَاءُ قَدْ فُهِمَ مِنْ قَوْلِكِ: لَا أَقُومُ. فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي اسْتِثْنَاءٍ مُثْبَتٍ يُرَادُ بِهِ الِانْتِفَاءُ الْمَفْهُومُ مِنَ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ؟ وَأَيْضًا، فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَ إِلَّا مُوَافِقًا لِمَا قَبْلَهَا فِي الْمَعْنَى. وَبَابُ الِاسْتِثْنَاءِ لَا يَكُونُ فِيهِ مَا بَعْدَ إِلَّا مُوَافِقًا لِمَا قَبْلَهَا، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا، إِذَا جَعَلْنَاهُ عَائِدًا إِلَى الْإِيمَانِ، أَنَّ الْإِيمَانَ يَتَجَزَّأُ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، فَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَالْجَوَابُ: أَنَّ زِيَادَتَهُ وَنَقَصَهُ هُوَ بِحَسَبِ قِلَّةِ الْمُتَعَلِّقَاتِ وَكَثْرَتِهَا.
وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ أَنْوَاعًا مِنَ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَالْبَدِيعِ. قَالُوا: التَّجَوُّزُ بِإِطْلَاقِ الشَّيْءِ عَلَى مَا يُقَارِبُهُ فِي الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ، أَطْلَقَ الظُّلْمَ عَلَى انْتِقَاصِ الْأَجْرِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ نَقْصَهُ عَنِ الْمَوْعُودِ بِهِ قَرِيبٌ فِي الْمَعْنَى مِنَ الظُّلْمِ. وَالتَّنْبِيهُ بِمَا هُوَ أَدْنَى عَلَى مَا هُوَ أَعْلَى فِي قَوْلِهِ: مِثْقَالَ ذَرَّةٍ. وَالْإِبْهَامُ فِي قَوْلِهِ: يُضَاعِفْهَا، إِذْ لَمْ يُبَيِّنْ فِيهِ الْمُضَاعَفَةَ فِي الْأَجْرِ. وَالسُّؤَالُ عَنِ الْمَعْلُومِ لِتَوْبِيخِ السَّامِعِ، أَوْ تَقْرِيرِهِ لِنَفْسِهِ فِي: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا. وَالْعُدُولُ مِنْ بِنَاءٍ إِلَى بِنَاءٍ لِمَعْنَى فِي: بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا. وَالتَّجْنِيسُ الْمُمَاثِلُ في: وجئنا وفي: بشهيد وشهيدا. وَالتَّجْنِيسُ الْمُغَايِرُ: فِي وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ. وَالتَّجَوُّزُ بِإِطْلَاقِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِّ فِيهِ فِي: مِنَ الْغَائِطِ. وَالْكِنَايَةُ فِي: أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ. وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ فِي: إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا إِلَى قَوْلِهِ: فَتَيَمَّمُوا.
وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُرَادُ بِهِ التَّعَجُّبُ فِي: أَلَمْ تَرَ. وَالِاسْتِعَارَةُ فِي: يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ. وَالطِّبَاقُ فِي: هَذَا أَيْ بِالْهُدَى، وَالطِّبَاقُ الظاهر في: وعصينا وأطعنا. وَالتَّكْرَارُ فِي: وَكَفَى بِاللَّهِ وليا، وكفى بالله، وفي سمعنا وسمعنا. وَالْحَذْفُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51)
أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56)