وغرض عائشة -رضي الله عنها- من هذا كله أنها استشكلت وقوع العذاب على من لا
إرادة له في القتال الذي هو سبب العقوبة، فوقع الجواب بأن العذاب يقع
عامًّا؛ لحضور آجالهم، ويُبعثون بعد ذلك على نياتهم.
(قَالَ) -صلى الله عليه وسلم-: ("نَعَمْ) يجمع الطريق المختلفين قصدًا وعملًا، (فِيهِمُ
الْمُسْبْصِرُ)؛ أي: العارف لِمَا يقصده الجيش المتعمّد لانتهاك بيت الله الحرام،
قال النوويّ: المستبصر: هو المستبين لذلك، القاصد له عمدًا. (وَالْمَجْبُورُ)؛
أي: المكره الذي لم يخرج باختياره، وإنما أخرجه قهرًا، قال النوويّ:
المجبور: هو المكره، يقال: أجبرته فهو مُجْبَر، هذه هي اللغة المشهورة،
ويقال أيضًا: جبرته فهو مجبور، حكاها الفراء وغيره، وجاء هذا الحديث على
هذا، اللغة (?). (وَابْنُ السَّبِيلِ) المراد به سالك الطريق معهم، وليس منهم،
(يَهْلِكُونَ مَهْلَكًا)؛ أي: هلاكًا (وَاحِدًا)؛ يعني: أن العذاب يقع على جميعهم،
فيهلكون معًا، (وَيَصْدُرُونَ)؛ أي: يرجعون، ويُبعثون في الآخرة (مَصَادِرَ شَتَّى)؛
أي: مراجع مختلفة باختلاف نيّاتهم، كما قال: (يَبْعَثُهُمُ اللهُ عَلَى نِيَّاتِهِمْ")
الحسنة، والسيّئة، فيجازيهم بحَسَبها، والمعنى: أنه يُخسف بالجميع؛ لشؤم
الأشرار، ثم يعامَل كلُّ أحد عند الحساب بحسب قصده.
وقال القرطبيّ رحمهُ اللهُ: "المستبصر": البصير بالأمور، و"المجبور": المكره
الذي لا حيلة له في دفع ما يُحمل عليه، وهو من جبرت الرجلَ على الشيء يفعله،
فهو مجبور، ثلاثيًّا، ويقال: أجبرته رباعيًّا، وهو الأصحّ والأكثر، فهو مُجْبَرٌ.
وقوله: "يهلكون مهلكًا واحدًا، ويصدرون مصادر شتّى": المهلك:
الهلاك، ويصدرون: يرجعون، وأصل الصّدر: الرجوع عن موضع الماء،
وشتّى: مختلفين بحَسَب نيَّاتهم. انتهى كلام القرطبيّ رحمهُ اللهُ (?).
وفي هذا الحديث من الفقه التباعد من أهل الظلم، والتحذير من
مجالستهم، ومجالسة البغاة، ونحوهم من المبطلين؛ لئلا يناله ما يعاقبون به،
وفيه أن من كَثّر سواد قوم جرى عليه حكمهم في ظاهر عقوبات الدنيا، والله
تعالى أعلم.