وقوله: (كُلَّهُمْ) بالجرّ توكيد؛ أي: جميعهم، فهو توكيد لـ"عبادي"، وهذا
معنى قوله في الحديث الآخر: "كل مولود يولد على الفطرة"، وهي التوحيد
المطلق، وما به يتعلق؛ لقوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]؛ أي: لا تُبَدِّلوا مخلوقاته باليهودية، والنصرانية،
والمجوسية، ونحوها، {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [التوبة: 36، يوسف: 40، الروم: 30]؛
أي: المستقيم، فلا تعدلوا عن الجادّة إلى الطرق الزايغة، كما قال تعالى:
{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}
[الأنعام: 153]؛ أي: عن الطريق الحقيقي الواصل إليه، المقبول لديه، لمن أراد
المنة عليه، ومنه قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ
لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)} [النحل: 9]، قاله القاري -رحمه الله- (?).
ثم بيَّن الله -سبحانه وتعالى- سبب ضلالة الخلق، وغوايتهم عن الحقّ بقوله: (وَإِنَّهُمْ)؛
أي: العبَاد الحنفاء، (أتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ)؛ أي: جاءتهم بالوسوسة (فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ
دِينِهِمْ)؛ أي: صَرَفتهم، وساقتهم، من اجتاله؛ أي: ساقه، وذهب به، وقيل:
الافتعال هنا للحمل على الفعل، كاختطب زيد عمرًا؛ أي: حَمَله على الخطبة؛
أي: حملتهم الشياطين على جولانهم، ومَيَلانهم عن دينهم، قاله القاري -رحمه الله-.
وقال النوويّ -رحمه الله-: قوله: "فاجتالتهم عن دينهم" هكذا هو في نُسخ
بلادنا: "فاجتالتهم" بالجيم، وكذا نقله القاضي عن رواية الأكثرين، وعن رواية
الحافظ أبى عليّ الغسانيّ: "فاختالتهم" بالخاء المعجمة، قال: والأول أصحّ،
وأوضح؛ أي: استخفّوهم، فذهبوا بهم، وأزالوهم عما كانوا عليه، وجالوا
معهم في الباطل، كذا فسّره الهرويّ، وآخرون، وقال شَمِر: اجتال الرجل
الشيءَ: ذهب به، واجتالَ أموالهم: ساقها، وذهب بها، قال القاضي: ومعنى
"فاختالوهم" بالخاء على رواية من رواه؛ أي: يحبسونهم عن دينهم،
ويصدونهم عنه. انتهى (?).
وقال القرطبيّ -رحمه الله-: قوله: "وإنهم أتتهم الشياطين إلخ"؛ يعني: شياطين
الإنس، من الآباء، والمهتمين بتعليمهم، وتدريبهم، وشياطين الجنّ