فطار عقله، وغاب وعيه، فَعَذره الله تعالى في خطئه بسبب ذلك، كما عَذَر من
أخطأ في شدة الفرح بقوله: "اللَّهُمَّ أنت عبدي، وأنا ربّك"، والله تعالى أعلم.
(المسألة السادسة): قال الحافظ وليّ الدين - رحمه الله -: إن قلت: ظاهر حال
هذا الرجل أنَّه وقع في كبيرة، وهو اليأس من رحمة الله، وكان هذا خاتمة
أمره، فكيف كانت هذه الكبيرة سبب المغفرة؟ .
قلت: إن صرفنا اللفظ عن ظاهره، يحمل "قَدَرَ" على "قضى"، أو
"ضيّق"، فليس فيه اليأس من رحمة الله، فإنَّه يرجو الرحمة بتقدير أن لا يقضي
عليه بالعذاب، أو لا يضيّق عليه على اختلاف القولين.
وإن أخذناه على ظاهره، فالجواب عن هذا: أن شدّة الخوف اصطلمته،
وأذهلته، حتى خرج عن حدّ التكليف، فنفعه خوفه، ونَجّاه مع التوحيد، ولم
يضرّه يأسه؛ لأنه حصل له في حالة انقطع عنه فيها التكليف، وبتقدير أنَّه لم
يصل إلى حالة أخرجته عن حيّز المكلّفين، فالخوف الحاصل له كفّر عنه سيّئته
التي هي اليأس من رحمة الله، بل كفَّر عنه سيئآته التي كان يرتكبها طول عمره،
وقد يشتمل الفعل الواحد على طاعة من وجه، ومعصية من وجه، فربما غلبت
الطاعة، فكفّرت المعصية، وربما غلبت المعصية، فأحبطت ثواب الطاعة، وفي
هذا المحلّ غلبت الطاعة، فكفّرت المعصية.
وعن الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام أنَّه قال فيمن سمع بآلة محرّمة، فأحدثت
له أحوالًا صالحة، يحصل له إثم السماع المحرّم، وثواب الأعمال الصالحة،
فإن غلب الثواب ربح، وإن غلب الإثم خسر، وإن استويا تكافأ. هذا معناه.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي ذكره وليّ الدين من كلام الشيخ
عز الدين ابن عبد السلام، غير صحيح، فإن السماع المحرّم لا تحصل منه
أحوال صالحة، وإن تخيّل صاحبه ذلك، وادّعاه، فإن الأحوال الصالحة، إنما
تحصل بطاعة الله تعالى، وأما المحرّمات، فلا يحصل بها إلا الأحوال
الشيطانية، فتنبّه. والله تعالى أعلم.
قال: وروى الإمام أحمد - رحمه الله - في "مسنده"، وغيرُهُ بإسناد جيّد، عن ابن
عمر - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل: "فعلتَ كذا وكذا؟ "، قال: لا،
والذي لا إله إلا هو، يا رسول الله، ما فعلت، فقال: "بلى، ولكن غُفر لك