الناس إنها الستر فإن الله يستر على من يغفر له، ومن لا يغفر له، ولكن الستر
لازم مسماها أو جزءه، فدلالتها عليه إما بالتضمن وإما باللزوم، وحقيقتها وقاية
شر الذَّنْب، ومنه المِغْفَر لِمَا يقي الرأس من الأذي، والستر لازم لهذا المعني،
وإلا فالعمامة لا تسمى مغفرًا، ولا القبع ونحوه مع ستره، فلا بد في لفظ
المغفر من الوقاية، وهذا الاستغفار الذي يمنع العذاب في قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}
[الأنفال: 33] فإن الله لا يعذب مستغفرًا. وأما من
أصر على الذَّنْب وطلب من الله مغفرته فهذا ليس باستغفار مطلق، ولهذا لا
يمنع العذاب، فالاستغفار يتضمن التوبة، والتوبة تتضمن الاستغفار، وكل منهما
يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق، وأما عند اقتران إحدى اللفظتين
بالأخرى فالاستغفار طلب وقاية شر ما مضي، والتوبة والرجوع طلب وقاية شر
ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله فها هنا ذنبان، ذنب قد مضى
فالاستغفار طلب وقاية شره، وذنب يخاف وقوعه، فالتوبة العزم على أنَّ لا
يفعله، والرجوع إلى الله يتناول النوعين، رجوع إليه ليقيه شر ما مضي، ورجوع
إليه ليقيه شر ما يستقبل من شر نفسه وسيئات أعماله، وأيضًا فإن المذنب بمنزلة
من ارتكب طريقًا تؤديه إلى هلاكه، ولا توصله إلى المقصود فهو مأمور أن
يوليها ظهره، ويرجع إلى الطريق التي فيها نجاته، وتوصله إلى مقصوده، وفيها
فلاحه، فها هنا أمران لا بد منهما، مفارقة شيء، والرجوع إلى غيره، فخصت
التوبة بالرجوع والاستغفار بالمفارقة، وعند إفرادهما يتناولان الأمرين، ولهذا
والله أعلم جاء الأمر بهما مرتبًا بقوله: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 90]
فإنه الرجوع إلى طريق الحق بعد مفارقة الباطل، وأيضًا فالاستغفار من
باب إزالة الضرر، والتوبة طلب جلب المنفعة، فالمغفرة أن يقيه شر الذَّنْب،
والتوبة أن يحصل له بعد الوقاية ما يحبه، وكل منهما يستلزم الآخر عند إفراده
والله أعلم.
وقيل في الفرق بينهما: إن التوبة لا تكون إلَّا لنفسه، أي: لِمَا اجترحته
نفسه خاصة من الآثام بخلاف الاستغفار، فإنه يكون لنفسه ولغيره أو لغيره
فقط، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ}
[الحشر: 10]، وقال تعالى حاكيًا عن الملائكة: