ولمَا بين الطائفتين من التنافي تجد المعتزلة أبعد الناس عن الصوفيّة،
ويميلون إلى اليهوديّة، وينفرون عن النصارى، ويجعلون إثبات الصفات هو قول
النصارى بالأقانيم، ولهذا تجدهم يذمّون النصارى أكثر، كما يفعل الجاحظ
وغيره، كما أن الأوَّلين يميلون إلى النصارى أكثر.
ولهذا كان هؤلاء في الحروف، والكلام المبتدع، كما كان الأولون في
الأصوات، والعمل المبتدع، كما اقتسم ذلك اليهود والنصارى، واليهود غالبهم
قدريّة بهذا الاعتبار، فإنهم أصحاب شريعة، وهم معرضون عن الحقيقة
القدريّة، ولهذا تجد أرباب الحروف والكلام المبتدع كالمعتزلة يوجبون
طريقتهم، وبحرمون ما سواها، ويعتقدون أن العقوبة الشديدة لاحقة من
خالفها، حتى إنهم يقولون بتخليد فسّاق أهل الملل، ويكفّرون من خرج عنهم
من فرق الأمة، وهذا التشديد، والآصار، والأغلال شبه دِين اليهود.
وتجد أرباب الصوت والعمل المبتدع لا يوجبون، ولا يحرّمون، وإنما
يستحبّون، وَيكرهون، فيعظّمون طريقهم، ويفضّلونه، ويرغّبون فيه، حتى يرفعوه
فوق قَدْره بدرجات، فطريقهم رغبة بلا رهبة إلا قليلًا، كما أن الأول رهبةٌ في
الغالب برغبة يسيرة، وهذا يُشبه ما عليه النصارى من الغلوّ في العبادات التي
يفعلونها مع انحلالهم من الإيجاب والاستحباب، لكنهم يتعبّدون بعبادات
كثيرة، ويبقون أزمانًا كثيرةً على سبيل الاستحباب، والفلاسفة يغلب عليهم هذا
الطريق، كما أن المتكلّمين يغلب عليهم الطريق الأول.
(القسم الثالث: القدريّة الإبليسيّة): الذين صدّقوا بأن الله صدر عنه
الأمران، لكن عندهم تناقض، وهم خصماء الله، كما جاء في الحديث، وهؤلاء
كثير في أهل الأقوال والأفعال، من سفهاء الشعراء، ونحوهم من الزنادقة.
قال: فتدبّر كيف كانت الملل الصحيحة الذين آمنوا، والذين هادوا،
والنصارى، والصابئون ليس فيها في الأصل قدريّة، وإنما حدثت القدريّة من
الملّتين الباطلتين: المجوس، والذين أشركوا. انتهى كلام شيخ
الإسلام رحمه الله (?)، وهو كلام نفيس، وبحثٌ أنيس، والله تعالى أعلم.