وإنما ذكر قوله: "وما لا يعطي على ما سواه" بعد قوله: "ما لا يعطي
على العنف"؛ ليدلّ على أنَّ الرفق أنجح الأسباب كلها، وأنفعها بأسرها، قال
الطيبيّ: وفي معناه قول الشاعر [من الكامل]:
يَا طَالِبَ الرِّزْقِ الْهَنِيِّ بِقُوَّةٍ ... هَيْهَاتَ أَنْتَ بِبَاطِلٍ مَشْغُوفُ
أَكَلَ الْعُقَابُ بِقُوَّةٍ جِيَفَ الْفَلَا ... وَرَعَى الذُّبَابُ الشَّهْدَ وَهْوَ ضَعِيفُ
والمعنى: ينبغي للمرء أن لا يحرص في رزقه، بل يَكِل أمره إلى الله
تعالى الذي تولى القسمة في خَلْقه، فالنَّسْر يأكل الجيفة بعنفه، والنحل يرعى
العسل برفقه.
قال التوربشتيّ: فإن قيل: فما معنى قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أنت رفيق، والله
الطبيب" (?)؟ .
قلنا: الطيب الحاذق بالشيء الموصوف، ولم يُرد بهذا القول نفي هذا
الاسم عمن يتعاطى ذلك، وإنما حوّل المعنى من الطبيعة إلى الشريعة،
وبيّن لهم أن الذي يرجون من الطبيب فالله فاعله، والمنّان به على عباده،
وهذا كقوله: "فإن الله هو الدهر"، وليس الطبيب بموجود في أسماء الله
سبحانه، ولا الرفيق، فلا يجوز أن يقال في الدعاء: يا طبيب، ولا يا
رفيق. انتهى.
وفيه إيماء إلى أنه يجوز أن يقال: هو الطبيب، وهو رفيق على منوال ما
ورد، وأما قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في آخر كلامه عند خروجه من الدنيا: "الرفيق الأعلى"
فيَحْتَمِل أن يراد به الله، وأن يراد به الملأ الأعلي، فمع الاحتمال لا يصحّ
الاستدلال. انتهى (?).
قال الجامع عفا الله عنه: الحقّ أن ما ثبت في الحديث الصحيح من