الأخرى، وهي التي بيّنها بقوله: (فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعاً، وَالْمَغْرِبَ
وَالْعِشَاءَ جَمِيعاً) قال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ظاهر هذا المساق أنه أوقع الظهر والعصر
في أول الوقت مجموعتين، وكذلك المغرب والعشاء؛ لأنَّه قال بعد ذلك:
(حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْماً أَخَّرَ الصَّلَاةَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعاً) جَمْع
تأخير، وحَمَله بعضهم على الجمع الصُّوْريّ بأن صلى الظهر في آخر وقتها،
والعصر في أوله.
وتعقبه الخطابيّ، وابن عبد البرّ، وغيرهما بأن الجمع رخصة، فلو كان
صُوْريّاً لكان أعظم ضِيقاً من الإتيان بكل صلاة في وقتها؛ لأن أوائل الأوقات
وأواخرها مما لا يدركه أكثر الخاصّة فضلاً عن العامة.
ومن الدليل على أن الجمع رخصة قول ابن عباس - رضي الله عنهما -: أراد أن لا
يُحرِج أمته، رواه مسلم.
وأيضاً فصريح الأخبار أن الجمع في وقت إحدى الصلاتين، وهو
المتبادر إلى الفهم من لفظ الجمع (?).
(ثُمَّ دَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعاً) قال
الباجيّ: مقتضاه أنه مقيم غير سائر، لأنه إنما يستعمل في الدخول إلى الخباء
والخروج منه، وهو الغالب، إلا أن يريد دخل إلى الطريق مسافراً، ثم خرج
عن الطريق للصلاة، ثم دخله للسير، وفيه بُعْدٌ، وكذا نقله عياض، واستبعده،
وقال ابن عبد البرّ: هذا أوضح دليل على ردّ من قال: لا يَجْمع إلا من جَدّ به
السير، وهو قاطع للالتباس. انتهى.
ففيه أن المسافر له أن يجمع نازلاً وسائراً، وكأنه - صلى الله عليه وسلم - فَعَله لبيان الجواز،
وكان أكثر عادته ما دلّ عليه حديث أنس - رضي الله عنه - في "الصحيحين" وغيرهما قال:
"كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخّر الظهر إلى وقت العصر، ثم
يجمع بينهما، وإذا زاغت قبل أن يرتحل صلى الظهر، ثم رَكِب"، وعند
الإسماعيليّ: "وإذا زالت صلى الظهر والعصر جميعاً، ثم ارتحل"، وقال
الشافعية، والمالكية: تَرْك الجمع للمسافر أفضل، وعن مالك رواية بكراهته.