على الأخفش دعواه أنَّها نافية، وقال: الذي جاء في الحديث، والتفسير أَولى.
وقوله: {بِبَابِلَ} متعلق بـ {وَمَا أُنْزِلَ}؛ أي: في بابل، والجمهور على فتح
لام الملكين، وقُرئ بكسرها، وهاروت وماروت بدل من الملكين، وَجُرّا
بالفتحة، أو عَطْف بيان، وقيل: بل هما بدل من الناس، وهو بعيد، وقيل: من
الشياطين، على أنَّ هاروت وماروت اسمان لقبيلتين من الجنّ، وهو ضعيف.
وقوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} بالتشديد من التعليم، وقرئ في الشاذّ بسكون
العين، من الإعلام، بناءً على أنَّ التضعيف يتعاقب مع الهمزة، وذلك أن الملكين
لا يُعَلِّمان الناسَ السحرَ، بل يُعْلمانهم به، وينهيانهم عنه، والأول أشهر.
وقد قال عليّ: الملكان يعلمان تعليم إنذار، لا تعليم طلب.
وفي إيراد البخاريّ هذه الآية إشارة إلى اختيار الحكم بكفر الساحر؛ لقوله
فيها: وَمَا ك {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}
ظاهرها أنهم كفروا بذلك، ولا يكفر بتعليم الشيء إلَّا وذلك الشيء كفر، وكذا
قوله في الآية على لسان الملكين: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}، فإن فيه إشارةً إلى
أن تعلّم السحر كفر، فيكون العمل به كفرًا، قال الحافظ: وهذا كله واضح على
ما قررته من العمل ببعض أنواعه، وقد زعم بعضهم أن السحر لا يصح إلَّا بذلك،
وعلى هذا فتسمية ما عدا ذلك سحرًا مجاز، كإطلاق السحر على القول البليغ.
وقصة هاروت وماروت جاءت بسند حسن من حديث ابن عمر، في
"مسند أحمد"، وأطنب الطبريّ في إيراد طرقها، بحيث يقضي بمجموعها على
أن للقصة أصلًا، خلافًا لمن زعم بطلانها؛ كعياض، ومن تبعه، ومُحَصّلها
أن الله رَكَّب الشهوة في ملكين من الملائكة اختبارًا لهما، وأمرهما أن يحكما
في الأرض، فنزلا على سورة البشر، وحكما بالعدل مدةً، ثم افتُتِنا بامرأة
جميلة، فعوقبا بسبب ذلك، بأن حُبِسا في بئر ببابل منكسين، وابتليا بالنطق
بعلم السحر، فصار يقصدهما من يطلب ذلك، فلا ينطقان بحضرة أحد، ضى
يُحَذِّراه، وينهياه، فإذا أصرَّ تكلما بذلك ليتعلم منهما ذلك، وهما قد عرفا
ذلك، فيتعلم منهما ما قصّ الله عنهما، والله أعلم. انتهى (?).