و"السير" - بكسر السين المهملة، وفتح التحتانية -: جمع سيرة، وأُطلق ذلك على أبواب الجهاد؛ لأنها متلقاة من أحوال النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في غزواته.
(المسألة الثانية): في اختلاف أهل العلم: هل كان الجهاد أولًا فرضَ عين، أو كفاية؟
قال "الفتح": وللناس في الجهاد حالان: إحداهما: في زمن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، والأخرى بعده، فأما الأولى فأول ما شُرع الجهاد بعد الهجرة النبوية إلى المدينة اتفاقًا، ثم بعد أَن شُرع، هل كان فرض عين، أو كفاية؟ قولان مشهوران للعلماء، وهما في مذهب الشافعيّ.
وقال الماورديّ: كان عينًا على المهاجرين دون غيرهم، ويؤيده وجوب الهجرة قبل الفتح في حقّ كل من أسلم إلى المدينة؛ لنصر الإسلام.
وقال السهيليّ: كان عينًا على الأنصار دون غيرهم، ويؤيده مبايعتهم النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ليلة العقبة على أن يؤوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وينصروه، فيخرج من قولهما أنه كان عينًا على الطائفتين، كفايةً في حق غيرهم، ومع ذلك فليس في حق الطائفتين على التعميم، بل في حق الأنصار إذا طرق المدينة طارق، وفي حق المهاجرين إذا أريد قتال أحد من الكفار ابتداءً، ويؤيد هذا ما وقع في قصة بدر فيما ذكره ابن إسحاق، فإنه كالصريح في ذلك.
وقيل: كان عينًا في الغزوة التي يخرج فيها النبيّ - صلى الله عليه وسلم - دون غيرها.
والتحقيق أنه كان عينًا على من عيّنه النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في حقه، ولو لم يخرج.
الحال الثاني: بعده - صلى الله عليه وسلم -، فهو فرض كفاية على المشهور، إلا أن تدعو الحاجة إليه، كأن يَدْهم العدوّ، ويتعيّن على من عيّنه الإمام، ويتأدى فرض الكفاية بفعله في السَّنَة مرة عند الجمهور، ومن حجتهم أن الجزية تجب بدلًا عنه، ولا تجب في السَّنَة أكثر من مرة اتفاقًا، فليكن بدلها كذلك، وقيل: يجب كلما أمكن، وهو قويّ، والذي يظهر أنه استمرّ على ما كان عليه في زمن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلى أن تكاملت فتوح معظم البلاد، وانتشر الإسلام في أقطار الأرض، ثم صار إلى ما تقدم ذِكره، والتحقيق أيضًا أن جنس جهاد الكفار متعيّن على كل مسلم، إما بيده، وإما بلسانه، وإما بماله، وإما بقلبه،