مالك ما يدل على أن مكة أفضل الأرض كلها، قال: لكن المشهور عن
أصحابه في مذهبه تفضيل المدينة.
ومما يدل للجمهور ما رواه الترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه عن عبد الله بن
عديّ بن حمراء - رضي الله عنه -، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقفًا على الْحَزَوَّرة، فقال:
"والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك
ما خرجت"، قال الترمذيّ: حسن صحيح، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان،
وقال ابن عبد البر: هذا من أصح الآثار عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: وهذا قاطع في
محل الخلاف. انتهى.
وذهب آخرون إلى تفضيل المدينة على مكة، وهو قول مالك، وأهل
المدينة، وحكاه زكريا الساجيّ عن بعض البصريين والبغداديين، وتقدم قول من
حكاه عن عمر.
قال ابن عبد البرّ رَحمه اللهُ: واستَدَلّ أصحابنا على ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بين
قبري ومنبري روضة من رياض الجنة"، قال: ورَكَّبوا عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "موضع
سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها", قال: وهذا لا دليل فيه على ما ذهبوا
إليه؛ لأنه إنما أراد به ذمّ الدنيا والزهد فيها، والترغيب في الآخرة، فأخبر أن
اليسير من الجنة خير من الدنيا كلها، وأراد بذكر السوط -والله تعالى أعلم-
التقليل، لا أنه أراد موضع السوط بعينه، بل موضع نصف سوط، وربع سوط
من الجنة الباقية خير من الدنيا الفانية، ثم قال: ولا حجة لهم في شيء مما
ذهبوا إليه، ولا يجوز تفضيل شيء من البقاع على شيء إلا بخبر يجب التسليم
له، ثم ذكر حديث ابن حمراء المتقدم، وقال: كيف يترك مثل هذا النصّ
الثابت، ويُمال إلى تأويل لا يجامع متأوله عليه؟ انتهى (?).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكِر أن الأرجح في المسألة
هو ما ذهب إليه الجمهور من تفضيل مكة على المدينة؛ لقوة حجته.
وقد أشبع الكلام الإِمام المجتهد البارع أبو محمد بن حزم رحمه الله في كتابه
"الْمُحَلَّى" ناصراً رأي الجمهور في تفضيل مكة على المدينة، ومُفَنِّداً رأي