(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في تقسيم الذنوب إلى صغائر، وكبائر:
قد اختلف السلف في الكبائر والصغائر، فذهب الجمهور إلى أن من الذنوب كبائر، ومنها صغائر.
وشذّت طائفة منهم: أبو إسحاق الإسفرايينيّ، فقال: ليس في الذنوب صغيرة، بل كلّ ما نهى الله عنه كبيرة، ونُقِل ذلك عن ابن عبّاس، وحكاه القاضي عياض عن المحقّقين، واحتجّوا بأن كلّ مخالفة لله، فهي بالنسبة إلى جلاله كبيرة. اهـ.
ونسبه ابن بطّال إلى الأشعريّة، فقال: انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر هو قول عامّة الفقهاء، وخالفهم في ذلك من الأشعريّة أبو بكر بن الطيّب، وأصحابه، فقالوا: المعاصي كلها كبائر، وإنما يقال لبعضها: صغيرة، بالإضافة إلى ما هو أكبر منها، كما يقال: القُبْلة المحرّمة صغيرة بإضافتهما إلى الزنا، وكلّها كبائر، قالوا: ولا ذنب عندنا يُغْفَر واجبًا باجتناب ذنب آخر، بل كلّ ذلك كبيرة، ومرتكبه في المشيئة غير الكفر؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]. وأجابوا عن الآية التي احتجّ أهل القول الأول بها، وهي قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31] أن المراد الشرك.
وقد قال الفرّاء: من قرأ "كبائر"، فالمراد بها كبير، وكبير الإثم هو الشرك، وقد يأتي لفظ الجمع، والمراد به الواحد، كقوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)} [الشعراء: 105]، ولم يُرسل إليهم غير نوح عليه السلام، قالوا: وجواز العقاب على الصغيرة كجوازه على الكبيرة. اهـ.
قال النوويّ: قد تظاهرت الأدلّة من الكتاب والسنّة إلى القول الأول، وقال الغزاليّ في "البسيط": إنكار الفرق بين الصغيرة والكبيرة، لا يليق بالفقيه.
قال الحافظ: قد حقّق إمام الحرمين المنقول عن الأشاعرة، واختاره، وبيّن أنه لا يخالف ما قاله الجمهور، فقال في "الإرشاد": المرضيّ عندنا أن كلّ ذنب يُعصَى الله به كبيرة، فربّ شيء يُعدّ صغيرة بالإضافة إلى الأقران، ولو كان في حقّ الملك لكان كبيرة، والربّ أعظم من عُصِي، فكلّ ذنب بالإضافة