وأما قول جابر - رضي الله عنه -: وأهلّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتوحيد، فليس فيه إلا
إخباره عن صفة تلبيته، وليس فيه نفي لتعيينه النسك الذي أحرم به بوجه من
الوجوه، وبكل حال، ولو كانت هذه الأحاديث صريحة في نفي التعيين،
لكانت أحاديث أهل الإثبات أولى بالأخذ منها؛ لكثرتها، وصحتها، واتصالها،
وأنها مثبتة مبيِّنة متضمنة لزيادة خَفِيت على من نفى، وهذا - بحمد الله -
واضح، وبالله التوفيق. انتهى ما حقّقه الإمام ابن القيّم -رَحِمَهُ اللهُ- (?).
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي طوّل به ابن القيّم -رَحِمَهُ اللهُ- نفسه في
تحقيقه مرجّحاً أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قارناً من أول ما أنشأ الإحرام، وأنه لا زال قارناً
حتى حلّ يوم النحر من النسكين جميعاً، هو التحقيق الحقيق بالقبول؛ حيث
أيّدته الأحاديث الصحيحة التي لا تقبل التأويل، ولا سيّما حديث عمر - رضي الله عنه - في
قضة إتيان الملك إليه - صلى الله عليه وسلم -، وأمْره له بالقران، وذلك بيقين قبل إنشاء الإحرام؛
لأن وادي العقيق قبل ذي الحليفة، فقد قيل: إنه مكان قريب من البقيع، بينه
وبين المدينة نحو أربعة أميال (?)، بينما المسافة التي بين المدينة وبين ذي
الحليفة نحو ستة أميال (?).
فظهر بهذا وتبيّن أن أمْره - صلى الله عليه وسلم - بالقران كان قبل إنشاء الإحرام، وأنه - صلى الله عليه وسلم -
امتثل ما أَمَره به ربه، ولا يجوز أن يَظُنّ أحد أنه - صلى الله عليه وسلم - خالف ما أُمر به من
القران، ثم أهلّ بالحج المفرد، أو العمرة المفردة، ثم بعد ذلك أدخل أحد
النسكين على الآخر، فهذا مما لا يُتصوّره عاقل.
والحاصل أنه - صلى الله عليه وسلم - حجّ قارناً، وما عدا ذلك من الأحاديث الصحيحة التي
تدلّ على خلاف هذا، فكلّها قابلة للتأويل بما يوافق هذا، وقد تقدّم تحقيق هذا