عائشة وأم سلمة أولى بالاعتماد؛ لأنهما أعلم بمثل هذا من غيرهما، ولأنه موافق للقرآن، فإن الله تعالى أباح الأكل والمباشرة إلى طلوع الفجر، قال الله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، والمراد بالمباشرة الجماع، ولهذا قال الله تعالى: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة: 187]، ومعلوم أنه إذا جاز الجماع إلى طلوع الفجر لزم منه أن يصبح جنبًا، ويصح صومه؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، وإذا دلّ القرآن، وفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جواز الصوم لمن أصبح جنبًا، وجب الجواب عن حديث أبي هريرة عن الفضل - رضي الله عنهما -، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - "، وجوابه من ثلاثة أوجه:
[أحدها]: أنه إرشاد إلى الأفضل، فالأفضل أن يغتسل قبل الفجر، فلو خالف جاز، وهذا مذهب أصحابنا، وجوابهم عن الحديث.
[فإن قيل]: كيف يكون الاغتسال قبل الفجر أفضل، وقد ثبت عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - خلافه؟ .
[فالجواب]: أنه - صلى الله عليه وسلم - فعله؛ لبيان الجواز، ويكون في حقّه حينئذ أفضل؛ لأنه يتضمن البيان للناس، وهو مأمور بالبيان، وهذا كما توضأ مرّةً مَرّةً في بعض الأوقات؛ بيانًا للجواز، ومعلوم أن الثلاث أفضل، وهو الذي واظب عليه - صلى الله عليه وسلم -، وتظاهرت به الأحاديث، وطاف على البعير؛ لبيان الجواز، ومعلوم أن الطواف ساعيًا أفضل، وهو الذي تكرر منه - صلى الله عليه وسلم -، ونظائره كثيرة.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى بُعْد هذا الجواب مع إنكاره - صلى الله عليه وسلم - على من راجعه، فقال: "والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتّقي"، فلو كان الأفضل في خلاف فعله لأرشده إليه، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
[والجواب الثاني]: لعله محمول على من أدركه الفجر مجامعًا، فاستدام بعد طلوع الفجر، عالِمًا، فانه يفطر، ولا صوم له.
قال الجامع عفا الله عن: لا يخفى بُعْد هذا الجواب أيضًا؛ إذ لو كان كذلك لَمَا جاز لأبي هريرة الرجوع عن فتواه، ولا أن عائشة وأم سلمة - رضي الله عنهما - ممن يعارض ذلك، فإن من استدام الجماع بعد طلوع الفجر، وهو عالمٌ بطل صومه بلا خلاف، فتبصّر، والله تعالى أعلم.