وَصَحَّحَهُ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ؛ لِأَنَّهُ نَذَرَ بِالْحَجِّ، وَالْحَجُّ ابْتِدَاؤُهُ الْإِحْرَامُ وَانْتِهَاؤُهُ طَوَافُ الزِّيَارَةِ فَيَلْزَمُهُ بِقَدْرِ مَا الْتَزَمَ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْعُرْفِ مَعَ وُجُودِ اللَّفْظِ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِالْحَجِّ فَإِنَّهُ يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ بَيْتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَنْصَرِفُ إلَى الْفَرْضِ فِي الْأَصْلِ وَلِهَذَا يَحُجُّ عَنْهُ رَاكِبًا لَا مَاشِيًا وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ هُوَ التَّصْحِيحُ الْأَوَّلُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ الرِّوَايَةِ مَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَوْ أَنَّ بَغْدَادِيًّا قَالَ: إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَعَلَيَّ أَنْ أَحُجَّ مَاشِيًا فَلَقِيَهُ بِالْكُوفَةِ فَكَلَّمَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَمْشِيَ مِنْ بَغْدَادَ، وَقَوْلُهُ لَا عِبْرَةَ بِالْعُرْفِ مَعَ وُجُودِ اللَّفْظِ مَمْنُوعٌ بَلْ الْمُعْتَبَرُ فِي النُّذُورِ وَالْأَيْمَانِ الْعُرْفُ لَا اللَّفْظُ كَمَا عُرِفَ فِي مَحَلِّهِ، وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ، وَلَوْ أَحْرَمَ مِنْ بَيْتِهِ فَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنْ يَمْشِيَ مِنْ بَيْتِهِ، وَإِنَّمَا يَنْتَهِي وُجُوبُ الْمَشْيِ بِطَوَافِ الزِّيَارَةِ؛ لِأَنَّ بِهِ يَنْتَهِي الْإِحْرَامُ، وَأَمَّا طَوَافُ الصَّدْرِ فَلِلتَّوْدِيعِ، وَلَيْسَ بِأَصْلٍ فِي الْحَجِّ حَتَّى لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ لَا يُوَدِّعُ.
وَأَفَادَ بِقَوْلِهِ لَا يَرْكَبُ أَنَّهُ لَوْ رَكِبَ لَزِمَهُ الْجَزَاءُ لِتَرْكِ الْوَاجِبِ فَإِذَا تَرَكَ فِي الْكُلِّ أَوْ فِي الْأَكْثَرِ يَلْزَمُهُ الدَّمُ، وَفِي الْأَقَلِّ يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِقَدْرِهِ مِنْ قِيمَةِ الشَّاةِ الْوَسَطِ، وَمُقْتَضَى الْأَصْلِ أَنْ لَا يَخْرُجَ عَنْ عُهْدَةِ النَّذْرِ إذَا رَكِبَ كَمَا لَوْ نَذَرَ الصَّوْمَ مُتَتَابِعًا فَقَطَعَ التَّتَابُعَ، وَلَكِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ نَصًّا فِي الْحَجِّ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ، وَهُوَ مَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ «أُخْتَ عُقْبَةَ نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَرْكَبَ وَتُهْدِيَ دَمًا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى عَجْزِهَا عَنْ الْمَشْيِ بِدَلِيلِ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَأَنَّهَا لَا تُطِيقُ، وَأَطْلَقَ فِي الْإِيجَابِ فَشَمَلَ مَا إذَا كَانَ مُنْجَزًا أَوْ مُعَلَّقًا، وَمَا إذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَوْ عَلَيَّ حَجَّةٌ مَاشِيًا، وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، وَلَمْ يَذْكُرْ حَجًّا، وَلَا عُمْرَةً لَزِمَهُ أَحَدُ النُّسُكَيْنِ اسْتِحْسَانًا فَإِنْ جَعَلَهُ عُمْرَةً مَشَى حَتَّى يَحْلِقَ إلَّا إذَا نَوَى بِهِ الْمَشْيَ إلَى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ أَوْ مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ مَسْجِدٍ مِنْ الْمَسَاجِدِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَقَوْلُهُ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى مَكَّةَ أَوْ الْكَعْبَةِ كَقَوْلِهِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ، وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى الْحَرَمِ أَوْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِعَدَمِ الْعُرْفِ بِالْتِزَامِ النُّسُكِ بِهِ، وَقَالَا يَلْزَمُهُ النُّسُكُ احْتِيَاطًا وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا لُزُومَ لَوْ قَالَ إلَى الصَّفَا أَوْ الْمَرْوَةِ أَوْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ أَوْ إلَى سِتَارِ الْكَعْبَةِ أَوْ بَابِهَا أَوْ مِيزَابِهَا أَوْ عَرَفَاتٍ أَوْ الْمُزْدَلِفَةِ أَوْ مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ ذَكَرَ مَكَانَ الْمَشْيِ غَيْرَهُ كَقَوْلِهِ عَلَيَّ الذَّهَابُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ أَوْ الْخُرُوجُ ثُمَّ الْحَجُّ الْمَنْذُورُ يَسْقُطُ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ فَإِذَا نَذَرَ الْحَجَّ، وَلَمْ يَكُنْ حَجَّ ثُمَّ حَجَّ، وَأَطْلَقَ كَانَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَسَقَطَ عَنْهُ مَا الْتَزَمَهُ بِالنَّذْرِ؛ لِأَنَّ نَذْرَهُ مُنْصَرِفٌ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ حَجَّ ثُمَّ نَذَرَ ثُمَّ حَجَّ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ الْحَجِّ عَنْ النَّذْرِ، وَإِلَّا وَقَعَ تَطَوُّعًا كَمَا حَرَّرَهُ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ فِي سَنَةِ كَذَا فَحَجَّ قَبْلَهَا جَازَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَقْيَسُ بِمَا قَدَّمْنَاهُ فِي نَذْرِ الصَّوْمِ.
(قَوْلُهُ: وَلَوْ اشْتَرَى مُحْرِمَةً حَلَّلَهَا وَجَامَعَهَا) ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهَا مُسْتَحَقَّةٌ لِلْمَوْلَى فَيَجُوزُ لَهُ تَحْلِيلُهَا بِغَيْرِ هَدْيٍ غَيْرَ أَنَّ الْبَائِعَ يُكْرَهُ تَحْلِيلُهُ لِإِخْلَافِ الْوَعْدِ حَيْثُ وُجِدَ مِنْهُ الْإِذْنُ وَالْمُشْتَرِي لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِذْنُ فَلَا يُكْرَهُ تَحْلِيلُهُ قَيَّدَ بِكَوْنِهَا مُحْرِمَةً؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَنْكُوحَةً فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي فَسْخُ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْبَائِعِ، وَهُوَ لَيْسَ لَهُ الْفَسْخُ بَعْدَ الْإِذْنِ، وَأَطْلَقَ فِي إحْرَامِهَا فَشَمِلَ مَا إذَا كَانَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ أَوْ لَا، وَأَشَارَ بِعَطْفِ الْجِمَاعِ عَلَى التَّحْلِيلِ إلَى أَنَّهُ يُحَلِّلُهَا بِغَيْرِ الْجِمَاعِ كَقَصِّ ظُفُرٍ وَشَعْرٍ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ التَّحْلِيلِ بِالْجِمَاعِ؛ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ حَتَّى تَعَلَّقَ بِهِ الْفَسَادُ فَلَا يَفْعَلُهُ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ الْحَجِّ، وَلَا يَقَعُ التَّحْلِيلُ بِقَوْلِهِ حَلَلْتُكِ بَلْ بِفِعْلِهِ أَوْ بِفِعْلِهَا بِأَمْرِهِ كَالِامْتِشَاطِ بِأَمْرِهِ، وَأَشَارَ إلَى أَنَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُحَلِّلَ الْعَبْدَ الْمُحْرِمَ لِمَا قَدَّمْنَاهُ، وَإِذَا كَانَ لَهُ مَنْعُهُمَا وَتَحْلِيلُهُمَا لَيْسَ لَهُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ، وَإِلَى أَنَّ الْحُرَّةَ لَوْ أَحْرَمَتْ بِحَجِّ نَفْلٍ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يُحَلِّلَهَا عِنْدَنَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَحْرَمَتْ بِالْفَرْضِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهَا إنْ كَانَ لَهَا مَحْرَمٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا فَلَهُ مَنْعُهَا فَإِنْ أَحْرَمَتْ فَهِيَ مُحْصَرَةٌ لِحَقِّ الشَّرْعِ فَلِذَا إذَا أَرَادَ الزَّوْجُ تَحْلِيلَهَا لَا تَتَحَلَّلُ إلَّا بِالْهَدْيِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَحْرَمَتْ بِنَفْلٍ بِلَا
ـــــــــــــــــــــــــــــQ (قَوْلُهُ: وَمُقْتَضَى الْأَصْلِ) أَيْ الْقِيَاسِ لَا أَصْلِ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ (قَوْلُهُ: يَسْقُطُ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) الَّذِي فِي الْفَتْحِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ.
(قَوْلُهُ: لَيْسَ لَهُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ) ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ إزَالَتُهُ بِالتَّحْلِيلِ، وَفِيهِ خِلَافُ زُفَرَ قَالَ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فَلَهُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ كَمَا فِي الْفَتْحِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.