كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ) أَيْ لَا يَخْرُجُ الْمُعْتَكِفُ اعْتِكَافًا وَاجِبًا مِنْ مَسْجِدِهِ إلَّا لِضَرُورَةٍ مُطْلَقَةٍ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ «كَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا يَخْرُجُ مِنْ مُعْتَكَفِهِ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ» وَلِأَنَّهُ مَعْلُومٌ وُقُوعُهَا وَلَا بُدَّ مِنْ الْخُرُوجِ فِي بَعْضِهَا فَيَصِيرُ الْخُرُوجُ لَهَا مُسْتَثْنًى وَلَا يَمْكُثُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الطَّهُورِ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا وَأَمَّا الْجُمُعَةُ فَإِنَّهَا مِنْ أَهَمِّ حَوَائِجِهِ وَهِيَ مَعْلُومَةٌ وُقُوعَهَا وَيَخْرُجُ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ يَتَوَجَّهُ بَعْدَهُ وَإِنْ كَانَ مَنْزِلُهُ بَعِيدًا عَنْهُ يَخْرُجُ فِي وَقْتٍ يُمْكِنُهُ إدْرَاكُهَا وَصَلَاةُ أَرْبَعٍ قَبْلَهَا وَرَكْعَتَانِ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ يُحَكِّمُ فِي ذَلِكَ رَأْيَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي خُرُوجِهِ عَلَى إدْرَاكِ سَمَاعِ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ إنَّمَا تُصَلَّى قَبْلَ خُرُوجِ الْخَطِيبِ كَذَا قَالُوا مَعَ تَصْرِيحِهِمْ بِأَنَّهُ إذَا شَرَعَ فِي الْفَرِيضَةِ حِينَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ أَجْزَأَهُ عَنْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ التَّحِيَّةَ تَحْصُلُ بِذَلِكَ فَلَا حَاجَةَ إلَى تَحِيَّةٍ غَيْرِهَا فِي تَحْقِيقِهَا وَكَذَا السُّنَّةُ فَمَا قَالُوهُ هُنَا مِنْ صَلَاةِ التَّحِيَّةِ وَيُصَلِّي بَعْدَهَا السُّنَّةَ أَرْبَعًا عَلَى قَوْلِهِ وَسِتًّا عَلَى قَوْلِهِمَا، وَلَوْ أَقَامَ فِي الْجَامِعِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَفْسُدْ اعْتِكَافُهُ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الِاعْتِكَافِ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ أَدَاءَهُ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ فَلَا يُتِمُّهُ فِي مَسْجِدَيْنِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَقَدْ ظَهَرَ بِمَا ذَكَرُوهُ هُنَا أَنَّ الْأَرْبَعَ الَّتِي تُصَلَّى بَعْدَ الْجُمُعَةِ وَيَنْوِي بِهَا آخِرَ ظُهْرٍ عَلَيْهِ لَا أَصْلَ لَهَا فِي الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهُمْ نَصُّوا هُنَا عَلَى أَنَّ الْمُعْتَكِفَ لَا يُصَلِّي إلَّا السُّنَّةَ الْبَعْدِيَّةَ فَقَطْ وَلِأَنَّ مَنْ اخْتَارَهَا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ فَإِنَّمَا اخْتَارَهَا لِلشَّكِّ فِي أَنَّ جُمُعَتَهُ سَابِقَةٌ، أَوْ لَا بِنَاءً عَلَى عَدَمِ جَوَازِ تَعَدُّدِهَا فِي مِصْرٍ وَاحِدٍ
وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ جَوَازُ إقَامَتِهَا فِي مِصْرٍ وَاحِدٍ فِي مَسْجِدَيْنِ فَأَكْثَرَ قَالَ وَبِهِ نَأْخُذُ وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَهُوَ الْأَصَحُّ فَلَا يَنْبَغِي الْإِفْتَاءُ بِهَا فِي زَمَانِنَا لِمَا أَنَّهُمْ تَطَرَّقُوا مِنْهَا إلَى التَّكَاسُلِ عَنْ الْجُمُعَةِ بَلْ رُبَّمَا وَقَعَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْجُمُعَةَ لَيْسَتْ فَرْضًا وَأَنَّ الظُّهْرَ كَافٍ وَلَا خَفَاءَ فِي كُفْرِ مَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ فَلِذَلِكَ نَبْهَت عَلَيْهَا مِرَارًا قَيَّدْنَا بِكَوْنِ الِاعْتِكَافِ وَاجِبًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَفْلًا فَلَهُ الْخُرُوجُ؛ لِأَنَّهُ مِنَّةٌ لَهُ لَا مُبْطِلٌ كَمَا قَدَّمْنَاهُ وَمُرَادُهُ بِمَنْعِ الْخُرُوجِ الْحُرْمَةُ يَعْنِي يَحْرُمُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ الْخُرُوجُ لَيْلًا، أَوْ نَهَارًا صَرَّحَ بِالْحُرْمَةِ صَاحِبُ الْمُحِيطِ وَأَفَادَ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ لِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ الْمُطْلَقَةِ لِلْخُرُوجِ كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَفِي الْمُحِيطِ، وَلَوْ أَحْرَمَ الْمُعْتَكِفُ بِحِجَّةٍ، أَوْ عُمْرَةٍ أَقَامَ فِي اعْتِكَافِهِ إلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْهُ ثُمَّ يَمْضِيَ فِي إحْرَامِهِ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ إقَامَةُ الْأَمْرَيْنِ فَإِنْ خَافَ فَوْتَ الْحَجِّ يَدَعُ الِاعْتِكَافَ وَيَحُجُّ ثُمَّ يَسْتَقْبِلُ الِاعْتِكَافَ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ أَهَمُّ مِنْ الِاعْتِكَافِ؛ لِأَنَّهُ يَفُوتُ بِمُضِيِّ يَوْمِ عَرَفَةَ وَإِدْرَاكُهُ فِي سَنَةٍ أُخْرَى مَوْهُومٌ وَإِنَّمَا يَسْتَقْبِلُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْخُرُوجَ وَإِنْ وَجَبَ شَرْعًا فَإِنَّمَا وَجَبَ بِعَقْدِهِ وَإِيجَابِهِ وَعَقْدُهُ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومَ الْوُقُوعِ فَلَا يَصِيرُ مُسْتَثْنًى عَنْ الِاعْتِكَافِ وَأَشَارَ إلَى أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ ثُمَّ ذَهَبَ لِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، أَوْ لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِذَلِكَ قَصْدٌ فَإِنَّهُ جَائِزٌ بِخِلَافِ مَا إذَا خَرَجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَمَكَثَ بَعْدَ فَرَاغَةِ أَنَّهُ يَنْتَقِضُ
ـــــــــــــــــــــــــــــQأَيْ تَنْزِيهًا كَمَا هُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ قَبْلَهُ أَفْضَلُ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْبَدَائِعِ الْآتِي أَيْضًا.
(قَوْلُهُ: وَرَكْعَتَانِ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ) قَالَ فِي الْفَتْحِ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ إذَا شَرَعَ فِي الْفَرِيضَةِ حِينَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ التَّحِيَّةَ تَحْصُلُ بِذَلِكَ فَلَا حَاجَةَ إلَى غَيْرِهَا فِي تَحْقِيقِهَا وَكَذَا السُّنَّةُ فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ وَهِيَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ إمَّا ضَعِيفَةٌ أَوْ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ كَوْنَ الْوَقْتِ مِمَّا يَسَعُ فِيهِ السُّنَّةَ وَأَدَاءُ الْفَرْضِ بَعْدَ قَطْعِ الْمَسَافَةِ مِمَّا يُعْرَفُ تَخْمِينًا فَقَدْ يَدْخُلُ قَبْلَ الزَّوَالِ لِعَدَمِ مُطَابَقَةِ ظَنِّهِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَبْدَأَ بِالسُّنَّةِ فَيَبْدَأَ بِالتَّحِيَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّى عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ؛ لِأَنَّهُ قَلَّمَا يَصْدُقُ الْحَزْرُ اهـ.
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُجْتَبَى تَضْعِيفُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ حَيْثُ قَالَ وَيُصَلِّي قَبْلَهَا أَرْبَعًا قِيلَ وَرَكْعَتَانِ أَيْضًا تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ وَفِي حَاشِيَةِ الرَّمْلِيِّ عَنْ خَطِّ الْمَقْدِسِيَّ لَا شَكَّ أَنَّ صَلَاةَ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَالسُّنَّةِ بِالِاسْتِقْلَالِ أَفْضَلُ مِنْ الْإِتْيَانِ بِهَا فِي ضِمْنِ فَرْضٍ يُؤَدَّى وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَنْ يَعْتَكِفُ وَيُلَازِمُ بَابَ الْكَرِيمِ إنَّمَا يَرُومُ مَا يُوجِبُ لَهُ مَزِيدَ التَّفْضِيلِ وَالتَّكْرِيمِ (قَوْلُهُ: وَقَدْ ظَهَرَ بِمَا ذَكَرُوهُ إلَخْ) فِي هَذَا الظُّهُورِ خَفَاءٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ التَّعَدُّدَ لِلْجُمُعَةِ فِي مِصْرٍ غَيْرُ لَازِمٍ فَلْيَكُنْ مَا ذَكَرُوهُ مَبْنِيًّا عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ مِنْ عَدَمِ التَّعَدُّدِ وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا فِي مَسْجِدِ الْجُمُعَةِ بَلْ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا فِي مُعْتَكَفِهِ بَلْ هُوَ أَوْلَى وَكَوْنُ الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ جَوَازُ تَعَدُّدِ الْجُمُعَةِ لَا يُنَافِي اسْتِحْبَابَ تِلْكَ الْأَرْبَعِ بَعْدَهَا لِمُرَاعَاةِ الْخِلَافِ وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْ النَّهْرِ وَغَيْرِهِ التَّصْرِيحَ بِاسْتِحْبَابِهَا وَأَنَّهُ مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ فَرَاجِعْهُ فِي الْجُمُعَةِ وَكَوْنُ الْأَوْلَى عَدَمُ الْإِفْتَاءِ بِهَا فِي زَمَانِنَا لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ الضَّرَرِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ الْإِتْيَانِ بِهَا مِمَّنْ لَا يُخْشَى مِنْهُ ذَلِكَ كَمَا مَرَّ مَبْسُوطًا عَنْ الْمَقْدِسِيَّ وَغَيْرِهِ ثُمَّ رَأَيْت الْعَلَّامَةَ الْمَقْدِسِيَّ اعْتَرَضَهُ فِي شَرْحِهِ بِوَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ لَيْسَ بَابَ تِلْكَ الْأَرْبَعِ الْمَعْقُودَ لِبَيَانِ أَحْكَامِهَا الثَّانِي أَنَّ عَدَمَ ذِكْرِهِمْ بِنَاءً عَلَى وُقُوعِ الْجُمُعَةِ صَحِيحَةً مُسْتَجْمِعَةً لِشَرَائِطِهَا بِيَقِينٍ كَمَا هُوَ الْأَصْلُ إذَا صُلِّيَتْ وَالْإِتْيَانُ لِأَرْبَعٍ عِنْدَ وُقُوعِ شَكٍّ وَاحْتِمَالٍ اهـ. وَهَذَا مَا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلًا.