قَيَّدَ بِالْخَاصَّةِ احْتِرَازًا عَنْ الْعَامَّةِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَحْضُرَهَا بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ لِصَاحِبِهَا خُصُومَةٌ، وَاخْتُلِفَ فِي الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ فَقِيلَ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ خَاصَّةٌ وَالْعَشَرَةُ وَمَا فَوْقَهَا عَامَّةٌ، وَاخْتَارَ فِي الْهِدَايَةِ أَنَّ الْخَاصَّةَ هِيَ مَا لَوْ عَلِمَ صَاحِبُهَا أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَحْضُرُهَا لَا يَتَّخِذُهَا، وَالْعَامَّةُ هِيَ الَّتِي يَتَّخِذُهَا وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْهَا وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ النَّسَفِيِّ أَنَّ الْعَامَّةَ دَعْوَةُ الْعُرْسِ وَالْخِتَانِ وَمَا سِوَاهُمَا خَاصَّةً وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ عِنْدِي أَنَّهُ حَسَنٌ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْعَامَّةَ هَاتَانِ، وَرُبَّمَا مَضَى عُمْرٌ وَلَمْ نَعْرِفْ مَنْ اصْطَنَعَ طَعَامًا عَامًّا ابْتِدَاءً لِعَامَّةِ النَّاسِ بَلْ لَيْسَ إلَّا هَاتَيْنِ الْخُصْلَتَيْنِ أَوْ بِخُصُوصٍ مِنْ النَّاسِ أَوْ لِكَوْنِهِ أَضْبَطَ فَإِنَّ مَعْرِفَةَ كَوْنِ الرَّجُلِ لَوْ لَمْ يَحْضُرْ الْقَاضِي لَمْ يَصْنَعْ أَوْ يَصْنَعُ غَيْرَ مُحَقَّقٍ فَإِنَّهُ أَمْرٌ مُبْطَنٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ لَوَائِحُ لَيْسَ كَضَبْطِ هَذَا وَتَكْفِي عَادَةُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ، وَعَادَةُ النَّاسِ هِيَ مَا ذَكَرَ النَّسَفِيُّ اهـ.
وَعِنْدِي أَنَّهُ لَيْسَ بِحَسَنٍ؛ لِأَنَّ الْعَامَّةَ عُرْفًا لَا تَنْحَصِرُ فِي هَاتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْعَقِيقَةَ كَذَلِكَ وَكَذَا طَعَامُ الْقُدُومِ مِنْ سَفَرِ الْحَجِّ وَفِي زَمَانِنَا يُصْنَعُ طَعَامٌ عَامٌّ فِي الْعِيدَيْنِ فَالْمُعْتَمَدُ مَا فِي الْهِدَايَةِ وَفِي السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ أَنَّهُ أَصَحُّ مَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِهَا. اهـ.
وَاخْتَارَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ كَمَا فِي الْمِعْرَاجِ وَفِي الْخُلَاصَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَجَزَمَ بِهِ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوِيهِ بِقَوْلِهِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ الْخَاصُّ مِنْ الْعَامِّ إلَى آخِرِهِ، وَلَمْ يَحْكِ غَيْرَهُ فَمَا قَالَهُ النَّسَفِيُّ لَيْسَ بِضَابِطٍ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ أَضْبَطَ وَكَوْنِهَا لَا يَعْمَلُهَا إلَّا لِأَجْلِ الْقَاضِي لَيْسَ بِخَفِيٍّ، وَبَعْضُهُ يُعْلَمُ بِالتَّصْرِيحِ وَبَعْضُهُ يُعْلَمُ بِالْقَرَائِنِ كَالصَّرِيحِ.
قَوْلُهُ (وَيَشْهَدُ الْجِنَازَةَ وَيَعُودُ الْمَرِيضَ) ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ فَفِي الْحَدِيثِ «لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتُّ حُقُوقٍ إذَا دَعَاهُ يُجِيبُهُ وَإِذْ مَرِضَ يَعُودُهُ وَإِذَا مَاتَ يَحْضُرُهُ وَإِذَا لَقِيَهُ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَإِذَا اسْتَنْصَحَهُ يَنْصَحُهُ وَإِذَا عَطَسَ يُشَمِّتُهُ» كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَهُوَ لَا يَسْقُطُ بِالْقَضَاءِ لَكِنْ لَا يُطِيلُ مُكْثَهُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَإِنَّمَا يَعُودُهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا خُصُومَةَ وَإِلَّا فَلَا.
(قَوْلُهُ وَلْيُسَوِّ بَيْنَهُمَا جُلُوسًا) أَيْ يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي الْجُلُوسِ لِلْحَدِيثِ «إذَا اُبْتُلِيَ أَحَدُكُمْ بِالْقَضَاءِ فَلْيُسَوِّ بَيْنَهُمْ فِي الْمَجْلِسِ وَالنَّظَرِ وَالْإِشَارَةِ، وَلَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ عَلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ دُونَ الْآخَرِ» رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَبِمِثْلِهِ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَلِأَنَّ فِي عَدَمِ التَّسْوِيَةِ مَكْسَرَةً لِقَلْبِ الْآخَرِ فَيُجْلِسُهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا يُجْلِسُ وَاحِدًا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ لِأَنَّ لِلْيَمِينِ فَضْلًا أَطْلَقَ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فَشَمِلَ الشَّرِيفَ وَالْوَضِيعَ وَالْأَبَ وَالِابْنَ وَالصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ وَالْحُرَّ وَالْعَبْدَ وَالسُّلْطَانُ وَغَيْرَهُ، وَلِذَا قَالَ فِي النَّوَازِلِ وَالْفَتَاوَى الْكُبْرَى خَاصَمَ السُّلْطَانُ مَعَ رَجُلٍ فَجَلَسَ السُّلْطَانُ مَعَ الْقَاضِي فِي مَجْلِسِهِ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقُومَ مِنْ مَقَامِهِ وَيُجْلِسُ خَصْمَ السُّلْطَانِ فِيهِ، وَيَقْعُدُ هُوَ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَقْضِي بَيْنَهُمَا اهـ.
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي عَلَى السُّلْطَانِ الَّذِي وَلَّاهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قِصَّةُ شُرَيْحٍ مَعَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَشَمِلَ الْمُسْلِمَ وَالذِّمِّيَّ فَيُسَوَّى بَيْنَهُمَا كَمَا فِي فَتَاوَى قَارِئِ الْهِدَايَةِ وَقَيَّدَ بِالْجُلُوسِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا بِالْقَلْبِ، وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ فَقَدْ حُكِيَ فِي الْوَلْوَالِجيَّةِ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ وَقْتَ مَوْتِهِ قَالَ اللَّهُمَّ إنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَمِلْ إلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ حَتَّى بِالْقَلْبِ إلَّا فِي خُصُومَةِ نَصْرَانِيٍّ مَعَ الرَّشِيدِ لَمْ أُسَوِّ بَيْنَهُمَا وَقَضَيْت عَلَى الرَّشِيدِ ثُمَّ بَكَى وَمِمَّا حُكِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ خَادِمًا مِنْ أَكْبَرِ خُدَّامِ الْخَلِيفَةِ جَاءَ مَعَ خَصْمَهُ لِلدَّعْوَى فَتَرَافَعَ عَلَى خَصْمِهِ فَأَمَرَهُ أَبُو يُوسُفَ بِالْمُسَاوَاةِ فَلَمْ يَمْتَثِلْ فَقَالَ الْقَفَا يَا غُلَامُ ائْتِنِي بِعَمْرٍو النَّخَّاسِ يَبِيعُ هَذَا الْخَادِمَ وَأَرْسِلْ ثَمَنَهُ إلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَاسْتَوَى وَانْقَضَتْ الدَّعْوَى، فَذَهَبَ الْخَادِمُ إلَى الْخَلِيفَةِ وَقَصَّ عَلَيْهِ مَا جَرَى وَبَكَى بُكَاءً شَدِيدًا فَقَالَ لَهُ لَوْ بَاعَكَ لَأَجَزْتُ بَيْعَهُ وَلَمْ أَرُدّكَ إلَى مِلْكِي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَيَنْبَغِي لِلْخَصْمَيْنِ أَنْ يَجْثُوَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا يَتَرَبَّعَانِ وَلَا يَقْعَيَانِ وَلَا يَحْتَبِيَانِ، وَلَوْ فَعَلَا ذَلِكَ مَنَعَهُمَا الْقَاضِي تَعْظِيمًا لِلْحُكْمِ كَمَا يَجْلِسُ الْمُتَعَلِّمُ بَيْنَ يَدَيْ الْمُعَلِّمِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQ (قَوْلُهُ وَعِنْدِي أَنَّهُ لَيْسَ بِحَسَنٍ إلَخْ) قَالَ فِي النَّهْرِ، وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ هَذَا بَعْدَ أَنْ ادَّعَى أَنَّ الْغَالِبَ كَوْنُ الدَّعْوَةِ الْعَامَّةِ هَاتَيْنِ غَيْرُ وَارِدٍ.