الْأَهْلِيَّةُ لِوُجُوبِ مَالَهُ وَعَلَيْهِ وَفَسَّرَهَا فَخْرُ الْإِسْلَامِ بِالنَّفْسِ وَالرَّقَبَةُ الَّتِي لَهَا عَهْدٌ وَالْمُرَادُ أَنَّهَا الْعَهْدُ فَقَوْلُهُمْ فِي ذِمَّتِهِ أَيْ فِي نَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ عَهْدِهَا مِنْ بَابِ إطْلَاقِ الْحَالِّ وَإِرَادَةِ الْمَحَلِّ اهـ.
وَالْمُطَالَبَةُ مِنْ طَالَبْتُهُ مُطَالَبَةً وَطِلَابَا مِنْ بَابِ قَاتَلَ، كَذَا فِي الْمِصْبَاحِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْكَفِيلَ وَالْمَكْفُولَ عَنْهُ صَارَا مَطْلُوبَيْنِ لِلْمَكْفُولِ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ الْمَطْلُوبُ مِنْ أَحَدِهِمَا هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْ الْآخَرِ كَمَا فِي الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ أَوْ لَا كَمَا فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ الْأَصِيلِ الْمَالُ وَمِنْ الْكَفِيلِ إحْضَارُ النَّفْسِ وَلَفْظُ الْمُطَالَبَةِ بِإِطْلَاقِهِ يَنْتَظِمُهُمَا هَذَا عَلَى رَأْيِ بَعْضِهِمْ.
وَجَزَمَ مِسْكِينٌ بِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْهُمَا وَاحِدٌ وَهُوَ تَسْلِيمُ النَّفْسِ فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ نَفْسِهِ وَالْكَفِيلُ قَدْ الْتَزَمَهُ وَقَيَّدَ بِالْمُطَالَبَةِ لِدَفْعِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّهَا الضَّمُّ فِي الدَّيْنِ فَيَثْبُتُ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ مِنْ غَيْرِ سُقُوطٍ عَنْ الْأَصِيلِ وَلَمْ يُرَجَّحْ فِي الْمَبْسُوطِ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَمَا يَظُنُّ مَانِعًا مِنْ لُزُومِ صَيْرُورَةِ الدَّيْنِ الْوَاحِدِ دَيْنَيْنِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ دَفَعَهُ فِي الْمَبْسُوطِ بِأَنَّهُ لَا مَانِعَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَوْفِي الْأَمْنَ أَحَدُهُمَا كَالْغَاصِبِ مَعَ غَاصِبِ الْغَاصِبِ فَإِنَّ كُلًّا ضَامِنٌ لِلْقِيمَةِ وَلَيْسَ حَقُّ الْمَالِكِ إلَّا فِي قِيمَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَوْفِي إلَّا مِنْ أَحَدِهِمَا وَاخْتِيَارُهُ تَضْمِينَ أَحَدِهِمَا يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْآخَرِ فَكَذَا هُنَا لَكِنَّ هُنَا بِالْقَبْضِ لَا بِمُجَرَّدِ اخْتِيَارِهِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ أَنَّهُ لَوْ وَهَبَ الدَّيْنَ لِلْكَفِيلِ صَحَّ وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ بِهِ عَلَى الْأَصِيلِ مَعَ أَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يَصِحُّ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ ثُبُوتَ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ اعْتِبَارٌ مِنْ الِاعْتِبَارَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فَجَازَ أَنْ يَعْتَبِرَ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ فِي ذِمَّتَيْنِ إنَّمَا يَمْتَنِعُ فِي عَيْنٍ تَثْبُتُ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ فِي طَرَفَيْنِ حَقِيقِيَّيْنِ وَلَكِنَّ الْمُخْتَارَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَنَّهُ فِي مُجَرَّدِ الْمُطَالَبَةِ لَا الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَهُ فِي ذِمَّتَيْنِ وَإِنْ أَمْكَنَ شَرْعًا لَا يَجِبُ الْحُكْمُ بِوُقُوعِ كُلِّ مُمْكِنٍ إلَّا بِمُوجِبٍ وَلَا مُوجِبَ؛ لِأَنَّ التَّوَثُّقَ يَحْصُلُ بِالْمُطَالَبَةِ وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ وَلَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ اعْتِبَارِ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ كَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ يُطَالِبُ بِالثَّمَنِ وَهُوَ فِي ذِمَّةِ الْمُوَكِّلِ.
كَذَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَكَذَا الْوَصِيُّ وَالْوَلِيُّ وَالنَّاظِرُ يُطَالَبُونَ بِمَا لَزِمَ دَفْعُهُ وَلَا شَيْءَ فِي ذِمَّتِهِمْ، وَكَذَا كُلُّ أَمِينٍ يُطَالَبُ بِرَدِّ الْأَمَانَةِ وَلَا شَيْءَ فِي ذِمَّتِهِ وَكَذَا سَيِّدُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ مُطَالَبٌ بِبَيْعِهِ أَوْ فِدَائِهِ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ الْهِبَةِ وَالْإِبْرَاءِ فَإِنَّا جَعَلْنَاهُ فِي حُكْمِ دَيْنَيْنِ تَصْحِيحًا لَتَصَرُّفِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَذَلِكَ عِنْدَهُ أَمَّا قَبْلَهُ فَلَا ضَرُورَةَ وَلَا دَاعِيَ إلَى ذَلِكَ، وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا نُقِلَ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الدَّيْنَ فِعْلٌ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ أَيْضًا كَمَا هُوَ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ إذْ فِعْلُ الْأَدَاءِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ. اهـ.
وَقَدْ يُقَالُ: إنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ لِإِسْقَاطِ الْمُطَالَبَةِ عَنْهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ إنَّمَا جَعَلَهُ فِعْلًا لِسُقُوطِهِ عَنْ الْمَيِّتِ إذْ لَا يَتَأَتَّى الْفِعْلُ مِنْهُ فَلَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ عَنْ مَيِّتٍ مُفْلِسٍ وَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ حَقِيقَتَهُ الْفِعْلُ؛ لِأَنَّهُ وَصْفٌ قَائِمٌ بِالذِّمَّةِ وَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْفِعْلُ كَمَا لَا يَخْفَى وَقَدْ صَرَّحُوا فِي مَوَاضِعَ بِأَنَّهُ وَصْفٌ وَلِذَا قَالُوا الدُّيُونُ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا؛ لِأَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ وَفِي الْإِيضَاحِ أَخْذًا مِنْ الْغَايَةِ أَنَّ تَعْرِيفَهَا بِالضَّمِّ فِي الدَّيْنِ لَا يَنْتَظِمُ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ وَالْكَفَالَةَ بِالْعَيْنِ وَالْكَفَالَةَ بِالْفِعْلِ. اهـ.
قُلْتُ: نَعَمْ لَا يَشْمَلُ لَكِنَّ الْمُعَرِّفَ لَهَا بِذَلِكَ إنَّمَا أَرَادَ تَعْرِيفَ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ فَإِنَّ أَصْلَ الْخِلَافِ نَشَأَ مِنْ أَنَّ الْكَفِيلَ هَلْ يَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ الْمَالُ أَوْ لَا ثُمَّ رَأَيْت صَاحِبَ الْبَدَائِعِ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ فِي بَيَانِ حُكْمِهَا وَلَمْ يَذْكُرْ الشَّارِحُونَ لِهَذَا الِاخْتِلَافِ ثَمَرَةً فَإِنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ لَا يُسْتَوْفَى إلَّا مِنْ أَحَدِهِمَا وَأَنَّ الْكَفِيلَ مُطَالَبٌ وَأَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ لَهُ صَحِيحَةٌ وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْأَصِيلِ وَلَوْ اشْتَرَى الطَّالِبُ بِالدَّيْنِ شَيْئًا مِنْ الْكَفِيلِ صَحَّ مَعَ أَنَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــQ (قَوْلُهُ: ثُمَّ رَأَيْت صَاحِبَ الْبَدَائِعِ إلَخْ) قَالَ الْغَزِّيِّ قُلْتُ: وَرَأَيْت بِخَطٍّ قَدِيمٍ عَلَى حَاشِيَةِ شَرْحِ الْمُجْمَعِ لِابْنِ مَالِكٍ مَا صُورَتُهُ وَفَائِدَةُ كَوْنِ الْكَفَالَةِ ضَمُّ الذِّمَّةِ إلَى الذِّمَّةِ فِي الْمُطَالَبَةِ لَا فِي الدَّيْنِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَصَحِّ أَنَّهُ إذَا مَاتَ الْكَفِيلُ بَعْدَ تَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْأَصِيلِ يَأْخُذُ الْمُطَالِبُ الدَّيْنَ مِنْ تَرِكَةِ الْكَفِيلِ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ لِأَنَّهُ مَدْيُونٌ عَلَى قَوْلِهِمْ وَلَا يَأْخُذُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ حَقَّ الطَّالِبِ عَلَى الْكَفِيلِ فِي الْمُطَالَبَةِ فَحَسْبُ وَكَذَا إذَا أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْأَصِيلَ بَرِئَ الْكَفِيلُ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ هَذَا عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ فَلَا يَبْرَأُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَفِيلِ وَالْأَصِيلِ بِإِبْرَاءِ الطَّالِبِ عَنْ أَحَدِهِمَا بَلْ لَهُ الْأَخْذُ مِنْ الْكَفِيلِ إذَا أَبْرَأَ الْأَصِيلَ وَكَذَا عَكْسُهُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مَدْيُونٌ وَمُطَالَبٌ. اهـ. بِلَفْظِهِ لَكِنَّهُ لَمْ يَعْزُهُ إلَى كِتَابٍ فَلْيُحَرَّرْ مِنْ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. اهـ.
كَذَا فِي حَاشِيَةِ الرَّمْلِيِّ أَقُولُ: وَجْهُهُ ظَاهِرٌ وَسَيَأْتِي مَتْنًا أَنَّهُ لَوْ أَبْرَأَ الْأَصِيلُ أَوْ آخَرُ عَنْهُ بَرِئَ الْكَفِيلُ وَتَأَخَّرَ عَنْهُ وَلَا يَنْعَكِسُ مَعَ أَنَّ الْمُصَنِّفَ مَشَى عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا الضَّمُّ فِي الْمُطَالَبَةِ وَسَيَأْتِي هُنَاكَ عَنْ الْغَزِّيِّ أَيْضًا أَنَّ الَّذِي فِي الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ أَنَّ الْمَالَ يَحِلُّ بِمَوْتِ الْكَفِيلِ وَأَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ