كَذَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْحُدُودَ مَوَانِعٌ قَبْلَ الْفِعْلِ زَوَاجِرٌ بَعْدَهُ أَيْ الْعِلْمُ بِشَرْعِيَّتِهَا يَمْنَعُ الْإِقْدَامَ عَلَى الْفِعْلِ وَإِيقَاعُهُ بَعْدَهُ يَمْنَعُ مِنْ الْعَوْدِ إلَيْهِ فَهِيَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِمَصْلَحَةٍ تَعُودُ إلَى كَافَّةِ النَّاسِ فَكَانَ حُكْمُهَا الْأَصْلِيُّ الِانْزِجَارُ عَمَّا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْعِبَادُ وَصِيَانَةَ دَارِ الْإِسْلَامِ عَنْ الْفَسَادِ فَفِي حَدِّ الزِّنَا صِيَانَةُ الْأَنْسَابِ وَفِي حَدِّ السَّرِقَةِ صِيَانَةُ الْأَمْوَالِ وَفِي حَدِّ الشُّرْبِ صِيَانَةُ الْعُقُولِ وَفِي حَدِّ الْقَذْفِ صِيَانَةُ الْأَعْرَاضِ فَالْحُدُودُ أَرْبَعَةٌ وَمَا فِي الْبَدَائِعِ مِنْ أَنَّهَا خَمْسَةٌ وَجَعَلَ الْخَامِسَ حَدَّ السُّكْرِ فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ حَدَّ السُّكْرِ هُوَ حَدُّ الشُّرْبِ كَمِّيَّةً وَكَيْفِيَّةً وَإِنْ اخْتَلَفَ السَّبَبُ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي أَنَّ الطَّهِرَةَ مِنْ الذَّنْبِ مِنْ أَحْكَامِهِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ فَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى ذَلِكَ وَذَهَبَ أَصْحَابُنَا إلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَحْكَامِهِ، فَإِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَلَمْ يَتُبْ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ إثْمُ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ عِنْدَنَا عَمَلًا بِآيَةِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ فَإِنَّهُ قَالَ تَعَالَى {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [المائدة: 34] فَإِنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ يَعُودُ إلَى التَّقْتِيلِ أَوْ التَّصْلِيبِ أَوْ النَّفْيِ فَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَلَيْهِمْ وَأَسْقَطَ عَذَابَ الْآخِرَةِ بِالتَّوْبَةِ، فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عَائِدٌ إلَيْهِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تُسْقِطُ الْحَدَّ فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مَرْفُوعًا أَنَّ «مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْمَعَاصِي شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ أَصَابَ مِنْهَا شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إلَى اللَّهِ إنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ» فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى مَا إذَا تَابَ فِي الْعُقُوبَةِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ ضَرْبَهُ أَوْ رَجْمَهُ يَكُونُ مَعَهُ تَوْبَةٌ مِنْهُ لِذَوْقِهِ سَبَبَ فِعْلِهِ فَتَقَيَّدَ بِهِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَتَقَيُّدُ الظَّنِّيِّ مَعَ مُعَارَضَةِ الْقَطْعِيِّ لَهُ مُتَعَيِّنٌ بِخِلَافِ الْعَكْسِ كَذَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَقَدْ يُقَالُ: إذَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْآيَةِ عَائِدًا إلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ لَمْ يَبْقَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] فَائِدَةٌ؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ تَرْفَعُ الذَّنْبَ قَبْلَ الْأَخْذِ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ وَبَعْدَهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى عَذَابِ الدُّنْيَا لِمَا سَيَأْتِي أَنَّ حَدَّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا يَبْقَى حَدُّ الْعِبَادِ عَلَيْهِمْ مِنْ الْقِصَاصِ إنْ قَتَلُوا وَالْقَطْعِ إنْ أَخَذُوا الْمَالَ فَصَحَّ الْعَفْوُ عَنْهُمْ بِخِلَافِهَا بَعْدَ الْقُدْرَةِ، فَإِنَّهَا لَا تُسْقِطُ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى لَا يَصِحَّ عَفْوُ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِينَ وَاسْتَدَلَّ الزَّيْلَعِيُّ عَلَى عَدَمِ كَوْنِهِ مُطَهِّرًا مِنْ الذَّنْبِ بِأَنَّهُ يُقَامُ عَلَى الْكَافِرِ وَلَا مُطَهِّرَ لَهُ اتِّفَاقًا وَزَادَ بَعْضُهُمْ وَيُقَامُ عَلَى كُرْهٍ مِمَّنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَالثَّانِي لَيْسَ بِشَيْءٍ لِجَوَازِ التَّكْفِيرِ بِمَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ مِنْ الْمَكَارِهِ، وَإِنْ لَمْ يَصْبِرْ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْعَاصِي فِي نَفْسِ الْأَمْرِ التَّوْبَةُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْإِنَابَةُ ثُمَّ إذَا اتَّصَلَ بِالْإِمَامِ ثُبُوتُهُ وَجَبَ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى الْإِمَامِ وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ إقَامَتِهِ بِسَبَبِ التَّوْبَةِ، وَفِي الظَّهِيرِيَّةِ رَجُلٌ أَتَى بِفَاحِشَةٍ ثُمَّ تَابَ وَأَنَابَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ لَا يُعْلِمُ الْقَاضِيَ بِفَاحِشَتِهِ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ السَّتْرَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ اهـ.
(قَوْلُهُ وَالزِّنَا وَطْءٌ فِي قُبُلٍ خَالٍ عَنْ الْمِلْكِ وَشُبْهَتِهِ) بَيَانٌ لِمَعْنَاهُ الشَّرْعِيِّ، وَاللُّغَوِيِّ، فَإِنَّهُمَا سَوَاءٌ فِيهِ وَخَرَجَ الْوَطْءُ فِي الدُّبُرِ وَخَرَجَ وَطْءُ زَوْجَتِهِ وَأَمَتِهِ وَمَنْ لَهُ فِيهَا شُبْهَةُ مِلْكٍ وَدَخَلَ وَطْءُ الْأَبِ جَارِيَةَ ابْنِهِ، فَإِنَّهُ زِنًا شَرْعِيٌّ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ بِالزِّنَا، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ وَطْءُ الرَّجُلِ فَخَرَجَ الصَّبِيُّ لَكِنْ يَرِدُ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ، فَإِنَّ فِعْلَهَا لَيْسَ وَطْئًا، وَإِنَّمَا هُوَ تَمْكِينٌ مِنْهُ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ تَسْمِيَتَهَا زَانِيَةً مَجَازٌ، وَالْكَلَامُ فِي الْحَقِيقَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQ (قَوْلُهُ وَقَدْ يُقَالُ إنْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ إلَخْ) قَالَ فِي النَّهْرِ التَّحْقِيقُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ رَاجِعٌ إلَى عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ حَتَّى لَوْ مَاتَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بَعْدَمَا أَخَافَ الطَّرِيقَ وَلَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا سَقَطَ عَنْهُ حَدُّ الدُّنْيَا وَالْعِقَابُ فِي الْآخِرَةِ أَمَّا لَوْ أَخَافَ الطَّرِيقَ وَتَابَ بَعْدَمَا أُخِذَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ حَدُّ الدُّنْيَا كَمَا سَيَأْتِي وَبِهَذَا ظَهَرَ فَائِدَةُ التَّقْيِيدِ بِمَا قَبْلَ الْقُدْرَةِ، وَقَوْلُ الشَّارِحِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَنْصَرِفُ إلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ الْجُمَلِ لِاتِّحَادِ جِنْسِهَا فَيَرْتَفِعُ الْكُلُّ بِالتَّوْبَةِ وَرَجَعَ إلَى مَا يَلِيه فِي آيَةِ الْقَذْفِ لِمُغَايِرَتِهَا لِمَا قَبْلَهَا فَكَانَتْ فَاصِلَةً اهـ.
وَيُرِيدُ بِارْتِفَاعِ الْكُلِّ الْمَجْمُوعَ لِمَا قَدْ عَلِمْته مِنْ أَنَّهُ لَوْ قَتَلَ أَوْ أَخَذَ الْمَالَ وَتَابَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا سَوَاءٌ تَابَ قَبْلَ الْأَخْذِ أَوْ بَعْدَهُ اهـ.
قُلْتُ: وَفِي حَمْلِهِ الْكُلَّ عَلَى الْمَجْمُوعِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي سُقُوطِ الْحَدِّ وَلَا شُبْهَةَ فِي سُقُوطِهِ فِيمَا لَوْ قَتَلَ أَوْ أَخَذَ الْمَالَ ثُمَّ تَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا لَا يَسْقُطُ الْقَتْلُ وَالضَّمَانُ لِكَوْنِهِ حَقَّ عَبْدٍ حَتَّى لَوْ عَفَا عَنْهُ صَحَّ كَمَا يَأْتِي (قَوْلُهُ وَالْقَطْعُ إنْ أَخَذُوا الْمَالَ) صَوَابُهُ وَالضَّمَانُ بَدَلٌ قَوْلُهُ وَالْقَطْعُ وَعِبَارَتُهُ فِي بَابِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ الثَّانِيَةُ لَوْ قَتَلَ فَتَابَ قَبْلَ الْأَخْذِ لَا حَدَّ لِأَنَّ هَذِهِ الْجِنَايَةَ لَا تُقَامُ بَعْدَ التَّوْبَةِ لِلِاسْتِثْنَاءِ الْمَذْكُورِ فِي النَّصِّ أَوْ لِأَنَّ التَّوْبَةَ تَتَوَقَّفُ عَلَى رَدِّ الْمَالِ وَلَا قَطْعَ فِي مِثْلِهِ فَظَهَرَ حَقُّ الْعَبْدِ فِي النَّفْسِ وَالْمَالِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْوَلِيُّ الْقِصَاصَ أَوْ يَعْفُوَ وَيَجِبُ الضَّمَانُ إذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ أَوْ اسْتَهْلَكَهُ كَذَا فِي الْهِدَايَةِ اهـ.
(قَوْلُهُ وَالْجَوَابُ أَنَّ تَسْمِيَتَهَا زَانِيَةً مَجَازٌ وَالْكَلَامُ فِي الْحَقِيقَةِ) اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ