لَا يُعْرَفُ حَالَةَ الْغَيْبَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا فَيَكُونَ هَذَا تَرْكَ الْإِنْفَاقِ لَا لِلْعَجْزِ عَنْ الْإِنْفَاقِ فَإِنْ رُفِعَ هَذَا الْقَضَاءُ إلَى قَاضٍ آخَرَ وَأَجَازَ قَضَاءَهُ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَضَاءَ لَيْسَ بِمُجْتَهَدٍ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَجْزَ لَمْ يَثْبُتْ اهـ.
وَتَعَقَّبَهُ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ بِقَوْلِهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْفَسْخَ إذَا غَابَ وَلَمْ يَتْرُكْ لَهَا نَفَقَةً يُمْكِنُ بِغَيْرِ طَرِيقِ إثْبَاتِ عَجْزِهِ بِمَعْنَى فَقْرِهِ وَهُوَ أَنْ تَتَعَذَّرَ النَّفَقَةُ عَلَيْهَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ إذَا تَعَذَّرَتْ النَّفَقَةُ عَلَيْهَا بِغَيْبَتِهِ ثَبَتَ لَهَا الْفَسْخُ قَالَ فِي الْحِلْيَةِ وَلَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ فَلَا يَلْزَمُ مَجِيءُ مَا قَالَ ظَهِيرُ الدِّينِ اهـ.
وَهَذَا لَا يَرُدُّ مَا قَالَهُ ظَهِيرُ الدِّينِ لِوَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ أَنَّهُ لَيْسَ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَالثَّانِي أَنَّ كَلَامَهُ فِي التَّفْرِيقِ بِسَبَبِ الْعَجْزِ لَا فِي غَيْرِهِ وَفِي الذَّخِيرَةِ فَرَّقَ بَيْنَ النَّفَقَةِ وَبَيْنَ سَائِرِ الدُّيُونِ فِي الْأَمْرِ بِالِاسْتِدَانَةِ فَإِنَّ فِي سَائِرِ الدُّيُونِ عَلَيْهِ الدَّيْنُ إذَا عَجَزَ عَنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ لَا يُؤْمَرُ صَاحِبُ الدَّيْنِ بِالِاسْتِدَانَةِ عَلَيْهِ وَهُنَا بَعْدَمَا فَرَضَ الْقَاضِي لَهَا تُؤْمَرُ بِالِاسْتِدَانَةِ عَلَى الزَّوْجِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ لَمْ تُؤْمَرْ بِالِاسْتِدَانَةِ عَسَى تَمُوتُ جُوعًا أَوْ يَمُوتُ الزَّوْجُ فَتَسْقُطُ نَفَقَتُهَا فَكَانَ الْأَمْرُ بِهَا لِتَأْكِيدِ حَقِّهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ فِي سَائِرِ الدُّيُونِ قَالَ مَشَايِخُنَا لَيْسَ فَائِدَةُ الْأَمْرِ بِالِاسْتِدَانَةِ بَعْدَ فَرْضِ الْقَاضِي النَّفَقَةَ إثْبَاتَ حَقٍّ لِلْمَرْأَةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ رُجُوعِهَا ثَابِتٌ بِالْفَرْضِ سَوَاءٌ أَكَلَتْ مِنْ مَالِ نَفْسِهَا أَوْ اسْتَدَانَتْ بِأَمْرِ الْقَاضِي أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَلَكِنَّ فَائِدَتَهُ أَنْ يَرْجِعَ الْغَرِيمُ عَلَى الزَّوْجِ وَبِدُونِ الْأَمْرِ لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يَرْجِعُ رَبُّ الدَّيْنِ عَلَى الْمَرْأَةِ وَهِيَ تَرْجِعُ بِالْمَفْرُوضِ عَلَى الزَّوْجِ وَفِي تَجْرِيدِ الْقُدُورِيِّ أَنَّ فَائِدَتَهُ أَنْ تُحِيلَ الْمَرْأَةُ الْغَرِيمَ عَلَى الزَّوْجِ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ الزَّوْجُ وَبِدُونِهِ لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي الْمُخْتَصَرِ أَنَّ فَائِدَتَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الزَّوْجِ بَعْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا وَبِدُونِهِ لَا رُجُوعَ اهـ.
أَمَّا فِي الذَّخِيرَةِ فَقَدْ ذَكَرُوا لِلْأَمْرِ بِالِاسْتِدَانَةِ ثَلَاثَةَ فَوَائِدَ لَكِنْ مَنْ جَعَلَ فَائِدَتَهَا إمْكَانَ الْإِحَالَةِ عَلَيْهِ بِدُونِ رِضَاهُ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَيْسَ لِرَبِّ الدَّيْنِ الْأَخْذُ مِنْ الزَّوْجِ بِدُونِ الْحَوَالَةِ وَعَلَى الْأَوَّلِ لَهُ ذَلِكَ كَمَا لَا يَخْفَى وَلَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَ الْوَجْهَ فِي أَمْرِهَا بِالِاسْتِدَانَةِ دُونَ أَمْرِهِ بِذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ الْمَدْيُونُ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَأْمُرَهُ الْقَاضِي بِالِاسْتِدَانَةِ، وَقَدْ ظَهَرَ لِي وَجْهُهُ بِأَنَّهُ لَوْ أَمَرَ رُبَّمَا تَرَاخَى فِي ذَلِكَ فَيَحْصُلُ لَهَا الضَّرَرُ فَأُمِرَتْ هِيَ بِالِاسْتِدَانَةِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ؛ وَلِأَنَّ الْغَرِيمَ يَطْمَئِنُّ لِاسْتِدَانَتِهَا أَكْثَرَ مِنْ اسْتِدَانَتِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَصِيرُ لَهُ الْمُطَالَبَةُ عَلَى شَخْصَيْنِ الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ بِخِلَافِ اسْتِدَانَةِ الزَّوْجِ فَإِنَّهُ لَا يُطَالَبُ إلَّا الزَّوْجُ فَلَوْ أَمَرَهُ الْقَاضِي بِالِاسْتِدَانَةِ لِنَفَقَتِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا وَلَمْ أَرَهُ مَنْقُولًا وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الِاسْتِدَانَةِ فَذَكَرَ الْخَصَّافُ وَتَبِعَهُ الشَّارِحُونَ أَنَّهَا الشِّرَاءُ بِالنَّسِيئَةِ لِتَقْضِيَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ وَفِي الْمُجْتَبَى مَعْزِيًّا إلَى رُكْنِ الْأَئِمَّةِ الصَّبَّاغِيِّ أَنَّهَا الِاسْتِقْرَاضُ فَإِذَا اسْتَدَانَتْ هَلْ تُصَرِّحُ بِأَنِّي أَسْتَدِينُ عَلَى زَوْجِي أَوْ تَنْوِي أَمَّا إذَا صَرَّحَتْ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا إذَا نَوَتْ، وَإِذَا لَمْ تُصَرِّحْ وَلَمْ تَنْوِ لَا يَكُونُ اسْتِدَانَةً عَلَيْهِ، وَلَوْ ادَّعَتْ أَنَّهَا نَوَتْ الِاسْتِدَانَةَ عَلَيْهِ وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ فَالْقَوْلُ لَهُ اهـ.
وَأَطْلَقَ فِي الِاسْتِدَانَةِ فَشَمِلَ قَرِيبَ الْمَرْأَةِ وَالْأَجْنَبِيَّ، وَلَكِنْ ذَكَرَ فِي شَرْحِ الْمُخْتَارِ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُعْسِرَةَ إذَا كَانَ زَوْجُهَا مُعْسِرًا وَلَهَا ابْنٌ مِنْ غَيْرِهِ مُوسِرٌ أَوْ أَخٌ مُوسِرٌ فَنَفَقَتُهَا عَلَى زَوْجِهَا وَيُؤْمَرُ الِابْنُ أَوْ الْأَخُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الزَّوْجِ إذَا أَيْسَرَ
ـــــــــــــــــــــــــــــQ (قَوْلُهُ: بِمَعْنَى فَقْرِهِ) الَّذِي فِي الْفَتْحِ فَقْدُهُ بِالدَّالِ لَا بِالرَّاءِ وَهُوَ الظَّاهِرُ.
(قَوْلُهُ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ لَيْسَ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ) قَالَ السَّيِّدُ أَبُو السُّعُودِ فِي حَاشِيَةِ مِسْكِينٍ نَقَلَ شَيْخُنَا عَنْ الرَّمْلِيِّ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ أَنَّ وَالِدَهُ أَفْتَى بِعَدَمِ الْفَسْخِ فِيمَا إذَا تَعَذَّرَ تَحْصِيلُ النَّفَقَةِ لِغَيْبَتِهِ وَإِنْ طَالَتْ وَانْقَطَعَ خَبَرُهُ قَالَ فَقَدْ صَرَّحَ فِي الْأُمِّ بِأَنَّهُ لَا فَسْخَ مَا دَامَ مُوسِرًا وَإِنْ انْقَطَعَ خَبَرُهُ وَتَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْ مَالِهِ إلَخْ فَقَوْلُهُ مُوسِرًا ظَاهِرٌ فِي الْفَسْخِ عِنْدَ عَجْزِهِ وَحِينَئِذٍ يُتَّجَهُ مَا ذَكَرَهُ شُرَّاحُ الْهِدَايَةِ فِي الرَّدِّ عَلَى الشَّافِعِيِّ، ثُمَّ قَالَ فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ اُسْتُفِيدَ مِنْ شَرْحِ الْغَايَةِ الْقُصْوَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْفَسْخِ أَيْ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَنَّ الْأَظْهَرَ عَدَمُهُ بِالنِّسْبَةِ لِمَا إذَا لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا حَالَ غَيْبَتِهِ وَالْحَالُ أَنَّ لَهُ قُدْرَةً عَلَى أَدَاءِ النَّفَقَةِ فَإِنْ عَجَزَ فَلَا اخْتِلَافَ فِي الْفَسْخِ حِينَئِذٍ وَعَلَى هَذَا فَلَا فَرْقَ فِي الْفَسْخِ بِالْعَجْزِ بَيْنَ حُضُورِهِ وَغَيْبَتِهِ خِلَافًا لِمَا فَهِمَهُ فِي الدُّرَرِ مِنْ أَنَّ الْفَسْخَ حَالَ غَيْبَتِهِ غَيْرُ مَنُوطٍ بِالْعَجْزِ، بَلْ بِتَرْكِ الْإِنْفَاقِ مَعَ الْقُدْرَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ اهـ.
مَا فِي حَاشِيَةِ أَبِي السُّعُودِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّفْرِيقَ حَالَ حَضْرَتِهِ وَحَالَ غَيْبَتِهِ جَائِزٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ إذَا ثَبَتَ عَجْزُهُ وَالْأَوَّلُ اعْتَبَرَهُ مَشَايِخُنَا مُجْتَهَدًا فِيهِ دُونَ الثَّانِي وَيَصِحُّ الْقَضَاءُ بِالْأَوَّلِ وَتَنْفِيذُهُ دُونَ الثَّانِي.
(قَوْلُهُ: بَعْدَ فَرْضِ الْقَاضِي) هَذَا الْقَيْدُ يَظْهَرُ فِي غَيْرِ مَسْأَلَةِ الْمُعْسِرِ الْغَائِبِ؛ لِأَنَّ الْغَائِبَ لَا يَفْرِضُ الْقَاضِي عَلَيْهِ نَفَقَةً مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ كَمَا سَيَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ.
(قَوْلُهُ: قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ) كَذَا فِي النُّسَخِ وَصَوَابُ التَّعْبِيرِ يَأْمُرُهَا بِضَمِيرِ الْمُؤَنَّثِ. (قَوْلُهُ: لَكِنْ ذَكَرَ فِي شَرْحِ الْمُخْتَارِ إلَخْ) قَالَ الرَّمْلِيُّ: وَكَذَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ غَائِبًا وَلَا مَالَ لَهُ عِنْدَ مَنْ يُقِرُّ بِهِ وَتَعَذَّرَتْ النَّفَقَةُ عَلَيْهَا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ تَأَمَّلْ