يوجد عنهم أنهم قالوا: كلام النفس وقول النفس؛ كما قالوا: حديث النفس؛ ولهذا يعبر بلفظ الحديث عن الأحلام التي ترى في المنام، كقول يعقوب عليه السلام: {وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} [يوسف: 6] ، وقول يوسف: {وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} [يوسف: 101] ، وتلك في النفس، لا تكون باللسان؛ فلفظ الحديث قد يقيد بما في النفس، بخلاف لفظ الكلام فإنه لم يعرف أنه أريد به ما في النفس فقط.
وأما قوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك: 13] ، فالمراد به القول الذي تارة يسر به فلا يسمعه الإنسان، وتارة يجهر به فيسمعونه كما يقال: أسر القراءة وجهر بها، وصلاة السر وصلاة الجهر؛ ولهذا لم يقل: قولوه بألسنتكم أو بقلوبكم، وما في النفس لا يتصور الجهر به، وإنما يجهر بما في اللسان، وقوله: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} من باب التنبيه. يقول: إنه يعلم ما في الصدور فكيف لا يعلم القول، كما قال في الآية الأخرى: {وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7] فنبه بذلك على أنه يعلم الجهر، ويدل على ذلك أنه قال: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} فلو أراد بالقول ما في النفس لكونه ذكر علمه بذات الصدور، لم يكن قد ذكر علمه بالنوع الآخر وهو الجهر.
وإن قيل: نبه، قيل: بل نبه على القسمين. وقوله تعالى: {آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا} [آل عمران: 41] ، قد ذكر هذا في قوله: {ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم: 10] ، وهناك لم يستثن شيئًا، والقصة واحدة، وهذا يدل على أن الاستثناء منقطع، والمعنى، آيتك ألا تكلم الناس، لكن ترمز لهم رمزًا، كنظائره في القرآن، وقوله: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} [مريم: 11] هو الرمز، ولو قدر أن الرمز استثناء متصل لكان قد دخل في الكلام المقيد بالإستثناء، كما في قوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء} [الشورى: 51] .