لَيْسَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي الْأَصْلِ بَلْ مِنَ الْجِنِّ، وَأَنَّهُ كَانَ يَتَعَبَّدُ مَعَهُمْ، فَأُطْلِقَ عَلَيْهِمُ اسْمُهُمْ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُمْ، كَالْحَلِيفِ فِي الْقَبِيلَةِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُهَا. وَالْخِلَافُ فِي إِبْلِيسَ هَلْ هُوَ مَلَكٌ فِي الْأَصْلِ وَقَدْ مَسَخَهُ اللَّهُ شَيْطَانًا، أَوْ لَيْسَ فِي الْأَصْلِ بِمَلَكٍ، وَإِنَّمَا شَمَلَهُ لَفْظُ الْمَلَائِكَةِ لِدُخُولِهِ فِيهِمْ وَتَعَبُّدُهُ مَعَهُمْ مَشْهُورٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّ أَصْلَهُ لَيْسَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا عَصْمَةُ الْمَلَائِكَةِ مِنِ ارْتِكَابِ الْكُفْرِ الَّذِي ارْتَكَبَهُ إِبْلِيسُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [66\ 6]،وَقَالَ تَعَالَى: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [21\ 27]،وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّهُ مِنَ الْجِنِّ، وَالْجِنُّ غَيْرُ الْمَلَائِكَةِ. قَالُوا: وَهُوَ نَصٌّ قُرْآنِيٌّ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَلَكٌ فِي الْأَصْلِ بِمَا تَكَرَّرَ فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ [15\ 30 - 31]،قَالُوا: فَإِخْرَاجُهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ مِنْ لَفْظِ الْمَلَائِكَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْهُمْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَالظَّوَاهِرُ إِذَا كَثُرَتْ صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الِاتِّصَالُ لَا الِانْقِطَاعُ، قَالُوا: وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ خَالَفَنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى كَانَ مِنَ الْجِنِّ [18\ 50] ; لِأَنَّ الْجِنَّ قَبِيلَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، خُلِقُوا مِنْ بَيْنِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ نَارِ السَّمُومِ كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ، وَالْعَرَبُ تَعْرِفُ فِي لُغَتِهَا إِطْلَاقَ الْجِنِّ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى فِي سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ:
وَسُخِّرَ مِنْ جِنِّ الْمَلَائِكِ تِسْعَةٌ ... قِيَامًا لَدَيْهِ يَعْمَلُونَ بِلَا أَجْرِ
قَالُوا: وَمِنْ إِطْلَاقِ الْجِنِّ عَلَى الْمَلَائِكَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا [37\ 158]،عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ قَوْلُهُمْ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ. سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ عُلُوًّا كَبِيرًا! وَمِمَّنْ جَزَمَ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي الْأَصْلِ لِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَقَصَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ «الْبَقَرَةِ»:إِنَّ كَوْنَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ: ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ. وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ «إِلَّا إِبْلِيسَ» اهـ. وَمَا يَذْكُرُهُ الْمُفَسِّرُونَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ: مِنْ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَشْرَافِ الْمَلَائِكَةِ، وَمِنْ خُزَّانِ