وَقَدْ رُوِّينَا عَنِ النَّخَعِيِّ رِوَايَةً غَيْرَ الرِّوَايَةِ الْأُولَى: " أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَمُوتُ -[269]- لَهُ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ فَيَدْبِغُ جُلُودَهَا، قَالَ: يَبِيعُهَا وَيَلْبَسُهَا إِذَا دَبَغَهَا "
858 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، ثنا عَبْدُ اللهِ بْنُ الْوَلِيدِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حَمَّادٍ، قَالَ: سَأَلْتُ إِبْرَاهِيمَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدِ احْتَجَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِمَّنْ يَقُولُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ جُمْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ الْمَيْتَةَ فِي كِتَابِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ وَاقِعًا عَلَى اللَّحْمِ، وَالْجِلْدِ جَمِيعًا إِلَّا أَنْ يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرٌ يَدُلُّ عَلَى خُصُوصِيَّةِ شَيْءٍ مِنْهُ فَلَمَّا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَخَّصَ فِي جِلْدِ الشَّاةِ الْمَيْتَةِ بَعْدَ الدِّبَاغِ، وَجَبَ اسْتِثْنَاءُ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ التَّحْرِيمِ، وَهُوَ الْجِلْدُ قَبْلَ الدِّبَاغِ عَلَى جُمْلَةِ التَّحْرِيمِ، وَذَكَرَ هَذَا الْقَائِلُ الْأَخْبَارَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ حَدِيثَ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَدِيثَ الشَّعْبِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، وَقَالَ: هَذِهِ الْأَخْبَارُ ثَابِتَةٌ فَإِنْ قِيلَ: قَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، قِيلَ: لَيْسَ الِاخْتِلَافُ مِمَّا يُوهِنُ الْخَبَرَ، وَلَيْسَ يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ مَيْمُونَةَ وَسَوْدَةَ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ رَوَى مَا ذَكَرْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ أَوْ سَوْدَةَ ثِقَةٌ يَجِبُ قَبُولُ حَدِيثِهِ، فَيُحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْهُمَا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فَهُوَ ثَابِتٌ لَا يُدْفَعُ، لَهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ ثَابِتًا عَنْ أَحَدِهِمَا، فَأَيُّهُمَا كَانَ فَهُوَ مَقْبُولٌ لَا مَعْنَى لِرَدِّهِ، وَأَيُّهُمَا كَانَ غَيْرَهُ يَجِبُ قَبُولُهُ، وَقَالَ: فَأَمَّا خَبَرُ ابْنِ وَعْلَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلَيْسَ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يُقَابِلَ بِهِ خَبَرَ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، وَلَا عَطَاءٍ، وَلَا عِكْرِمَةَ إِذَا خَالَفُوهُ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ حُفَّاظُ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعَ أَنَّ رِوَايَةَ ابْنِ وَعْلَةَ لَيْسَتْ بِخِلَافٍ لِرِوَايَةِ هَؤُلَاءِ، قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا دُبِغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ» مُخْتَصَرًا، وَيَكُونُ قَدْ سَمِعَ مِنَ مَيْمُونَةَ وَسَوْدَةَ أَوْ إِحْدَاهُمَا قِصَّةَ الشَّاةِ، وَلَيْسَ فِي -[270]- رِوَايَةِ ابْنِ وَعْلَةَ قِصَّةُ الشَّاةِ، وَلَا فِي حَدِيثِ هَؤُلَاءِ اللَّفْظُ الَّذِي فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَعْلَةَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا حَدِيثَيْنِ مَحْفُوظَيْنِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ صَاحِبِهِ فَإِنْ قَالُوا: لَيْسَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ ذِكْرُ الدِّبَاغِ، قِيلَ لَهُ قَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَعُقَيْلٌ، وَالزُّبَيْدِيُّ، وَهَؤُلَاءِ مِنْ ثِقَاتِ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ، وَقَدْ ذَكَرُوا الدِّبَاغَ فِي حَدِيثِهِمْ، وَالْحَافِظُ إِذَا زَادَ فِي الْحَدِيثِ شَيْئًا فَزِيَادَتُهُ مَقْبُولَةٌ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الدِّبَاغُ فِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ يُرَخِّصُ فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ وَبَعْدَهُ، قِيلَ قَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَالْكَرَاهِيَةُ ثَبَتَتْ عِنْدَنَا عَنْهُ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَتَانِ مُتَكَافِئَتَيْنِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَيْهِ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا سَقَطَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَيَثْبُتُ تَحْرِيمُ الِانْتِفَاعِ بِجَلْدِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ إِذْ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَرْخَصَ فِي ذَلِكَ إِلَّا مَا اخْتَلَفَ فِيهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ ذَكَرْنَا عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا جَاءَكَ عَنْ رَجُلٍ حَدِيثَانِ مُخْتَلِفَانِ لَا تَدْرِي النَّاسِخُ مِنْهُمَا مِنَ الْمَنْسُوخِ، وَلَا الْأَوَّلَ مِنَ الْآخِرِ فَلَمْ يَجِئْكَ عَنْهُ شَيْءٌ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَوْ لَمْ يُرْوَ عَنِ الزُّهْرِيِّ هَذَا الْحَدِيثُ لَكَانَ فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ وَحَدِيثِهِ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كِفَايَةٌ، وَمَقْنَعٌ، فَإِنْ قِيلَ: فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا فَحَدِيثُ ابْنِ عُكَيْمٍ نَاسِخٌ لَهُ، قِيلَ إِنَّ ابْنَ عُكَيْمٍ لَمْ يَسْمَعْ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَتْ لَهُ صُحْبَةٌ إِنَّمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَشْيَخَةٍ مِنْ جُهَيْنَةَ لَمْ يُسَمِّهِمْ وَلَمْ يَدْرِ مَنْ هُمْ، وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ خَبَرِ وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ غَيْرُ مَشْيَخَةٍ لَا يُعْرَفُونَ، وَذَكَرَ حَدِيثَ صَدَقَةَ بْنِ خَالِدٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَضَى قَالَ: وَمَعَ هَذَا فَلَوْ كَانَ خَبَرُ ابْنِ عُكَيْمٍ ثَابِتًا لَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا؛ -[271]- لِأَنَّ تِلْكَ الْأَخْبَارِ فِيهَا إِذْنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِانْتِفَاعِ بِجَلْدِ الشَّاةِ الْمَيْتَةِ بَعْدَ الدِّبَاغِ، فَلَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِلْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَإِذَا أَمْكَنَ لَنَا أَنْ تَكُونَ الْأَخْبَارُ مُخْتَلِفَةً، وَأَمْكَنَ اسْتِعْمَالُهَا فَاسْتِعْمَالُهَا أَوْلَى بِنَا مِنْ أَنْ نَجْعَلَهَا مُتَضَادَّةً، فَيُسْتَعْمَلُ خَبَرُ ابْنِ عُكَيْمٍ فِي النَّهْيِ عَنِ اسْتِعْمَالِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ وَيُسْتَعْمَلُ خَبَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ فِي الِانْتِفَاعِ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ بَعْدَ الدِّبَاغِ، وَقَالَ آخَرُ: وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ دِبَاغَ الْمَيْتَةِ طَهُورَهَا قَبْلَ مَوْتِهِ بِأَقَلَّ مِنْ شَهْرٍ، وَلَا يَكُونُ خَبَرُ ابْنِ عُكَيْمٍ لَوْ ثَبَتَ نَاسِخًا لَهُ عَلَى أَنَّ خَبَرَ ابْنِ عُكَيْمٍ غَيْرُ ثَابِتٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ مِنْ حَامِلِ الْكِتَابِ إِلَيْهِمْ، وَلَا مَنْ قَرَأَ الْكِتَابَ عَلَيْهِمْ، وَالْحَدِيثُ مِنْ مَشْيَخَةٍ لَا يُعْرَفُونَ، وَاعْتَرَضَ مُعْتَرِضٌ مَنِ احْتَجُّوا بِهَا، فَزَعَمَ أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ جَائِزٌ، بِافْتِرَاشٍ، وَجُلُوسٍ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَعْمَلُ مِنْ ذَلِكَ يَابِسًا، لَا يَكُونُ رَطْبًا يَنْجُسُ الطَّاهِرُ بِمَمَاسَّةِ الرَّطْبِ مِنْهُ، وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ خَبَرِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُهَا» وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ مَا لَمْ يُحَرَّمْ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، وَذَكَرَ قَوْلَ اللهِ جَلَّ وَعَزَّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] إِلَى قَوْلِهِ {عَفَا اللهُ عَنْهَا} [المائدة: 101] الْآيَةَ، قَالَ: فَمَنْ حَظَرَ وَمَنَعَ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ فِي غَيْرِ بَابِ الْأَكْلِ فَقَدْ حَظَرَ مَا هُوَ مُبَاحٌ، قَالَ: وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالثَّوْبِ النَّجِسِ بِأَنْ يُلْبَسَ أَشَدُّ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ، وَفِي إِجَازَتِهِمْ دَلِيلٌ عَلَى إِبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ بِالْأُهُبِ النَّجِسَةِ، وَأَنَّ الَّذِي حُرِّمَ مِنْهُ الْأَكْلُ عَلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَقَالَ بَعْضُ مَنْ عَارَضَ هَذَا الْقَائِلَ: لَوْ وَجَبَ اسْتِعْمَالُ ظَاهِرِ خَبَرِ الزُّهْرِيِّ، إِنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُهَا لَجَازَ بَيْعُ جِلْدِ الشَّاةِ قَبْلَ أَنْ يُدْبَغَ، أَوْ جَازَتْ هِبَتُهُ، فَلَمَّا مُنِعَ الْجَمِيعُ مِنْ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الزُّهْرِيِّ إِنَّمَا رُوِيَ عَلَى الِاخْتِصَارِ، وَالْأَخْبَارُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَابِ مُفَسِّرَةٌ لِذَلِكَ الْخَبَرِ وَمُبَيِّنَةٌ مَعْنَاهُ