لقد كان الله الذي أخرج هذه الأمة، وجعلها خير أمة أخرجت للناس، يعدها لأمر عظيم هائل .. كان يعدها لحمل أمانة منهجه في الأرض، لتستقيم عليه كما لم تستقم أمة قط، ولتقيمه في حياة الناس كما لم يقم كذلك قط. ولم يكن بد أن تراض هذه الأمة رياضة طويلة. رياضة تخلعها أولا من جاهليتها وترفعها من سفح الجاهلية الهابطة وتمضي بها صعدا في المرتقى الصاعد إلى قمة الإسلام الشامخة ثم تعكف بعد ذلك على تنقية تصوراتها وعاداتها ومشاعرها من رواسب الجاهلية وتربية إرادتها على حمل الحق وتبعاته. ثم تنتهي بها إلى تقييم الحياة جملة وتفصيلا وفق قيم الإسلام في ميزان الله .. حتى تكون ربانية حقا .. وحتى ترتفع بشريتها إلى أحسن تقويم .. وعندئذ لا يستوي في ميزانها الخبيث والطيب ولو أعجبها كثرة الخبيث! والكثرة تأخذ العين وتهول الحس. ولكن تمييز الخبيث من الطيب، وارتفاع النفس حتى تزنه بميزان الله، يجعل كفة الخبيث تشيل مع كثرته، وكفة الطيب ترجح على قلته .. وعندئذ تصبح هذه الأمة أمينة ومؤتمنة على القوامة .. القوامة على البشرية .. تزن لها بميزان الله وتقدر لها بقدر الله وتختار لها الطيب، ولا تأخذ عينها ولا نفسها كثرة الخبيث! وموقف آخر ينفع فيه هذا الميزان .. ذلك حين ينتفش الباطل فتراه النفوس رابيا وتؤخذ الأعين بمظهره وكثرته وقوته .. ثم ينظر المؤمن الذي يزن بميزان الله إلى هذا الباطل المنتفش، فلا تضطرب يده، ولا يزوغ بصره، ولا يختل ميزانه ويختار عليه الحق الذي لا رغوة له ولا زبد ولا عدة حوله ولا عدد .. إنما هو الحق .. الحق المجرد إلا من صفته وذاته وإلا من ثقله في ميزان الله وثباته وإلا من جماله الذاتي وسلطانه! لقد ربى الله هذه الأمة بمنهج القرآن، وقوامة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى علم - سبحانه - أنها وصلت إلى المستوي الذي تؤتمن فيه على دين الله .. لا في نفوسها وضمائرها فحسب، ولكن في حياتها ومعاشها في هذه الأرض، بكل ما يضطرب في الحياة من رغبات ومطامع، وأهواء ومشارب، وتصادم بين المصالح، وغلاب بين الأفراد والجماعات. ثم بعد ذلك في قوامتها على البشرية بكل ما لها من تبعات جسام في خضم الحياة العام.