وثانيتهما: نقض العهود التي كانت المعسكرات الجاهلية تعقدها مع المسلمين - في ظروف مختلفة - عهدا بعد عهد بمجرد أن تتاح لها فرصة نقضها، وعند أول بادرة تشير إلى أن المعسكر الإسلامي في ضائقة تهدد وجوده أو على الأقل تجعل هذا النقض مأمون العاقبة على ناقضيه من المشركين - ومن أهل الكتاب من قبلهم - فما كانت هذه العهود - إلا نادرا - عن رغبة حقيقية في مسالمة الإسلام ومهادنة المسلمين إنما كانت عن اضطرار واقعي إلى حين!
فما تطيق المعسكرات الجاهلية طويلا أن ترى الإسلام ما يزال قائما حيالها مناقضا في أصل وجوده لأصل وجودها مخالفا لها مخالفة جذرية أصيلة في الصغيرة والكبيرة من مناهجها، يهدد بقاءها بما في طبيعته من الحق والحيوية والحركة والانطلاق لتحطيم الطاغوت كله، ورد الناس جميعا إلى عبادة الله وحده.
وهذه الظاهرة الأخيرة والقاعدة الأصيلة التي تقوم عليها هي التي يقررها الله سبحانه في قوله عن المشركين: «وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا» ... (البقرة:217)
والتي يقول فيها عن أهل الكتاب: «وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ» .. (البقرة:109)
ويقول فيها كذلك: «وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ» .. (البقرة:120)
فيعلن - سبحانه - بهذه النصوص القطعية عن وحدة الهدف بين جميع معسكرات الجاهلية تجاه الإسلام والمسلمين وعن قوة الإصرار على هذا الهدف وامتدادها عبر الزمان، وعدم توقيتها بظرف أو زمان! وبدون إدراك ذلك القانون الحتمي في طبيعة العلاقات بين التجمع الإسلامي والتجمعات الجاهلية، وتفسير الظواهر التي تنشأ عنه - على مدار التاريخ - بالرجوع إليه، لا يمكن فهم طبيعة الجهاد في الإسلام ولا طبيعة تلك الصراعات الطويلة بين المعسكرات الجاهلية والمعسكر الإسلامي. ولا يمكن فهم بواعث المجاهدين الأوائل، ولا أسرار الفتوحات الإسلامية ولا أسرار الحروب الوثنية والصليبية التي