فهم يحيلون شركهم هم وآباؤهم، وتحريمهم ما حرموه مما لم يحرمه الله، وادعاءهم أن هذا من شرع الله بغير علم ولا دليل.
يحيلون هذا كله على مشيئة الله بهم. فلو شاء الله ما أشركوا ولا حرموا .. فكيف واجه القرآن الكريم هذه المقولة؟
لقد واجهها بأنهم كذبوا كما كذب الذين من قبلهم، وقد ذاق المكذبون من قبلهم بأس الله. وبأس الله ينتظر المكذبين الجدد: «كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا».
وهذه هي الهزة التي قد تحرك المشاعر، وتوقظ من الغفلة، وتوجه إلى العبرة ..
واللمسة الثانية كانت بتصحيح منهج الفكر والنظر .. إن الله أمرهم بأوامر ونهاهم عن محظورات .. وهذا ما يملكون أن يعلموه علما مستيقنا .. فأما مشيئة الله فهي غيب لا وسيلة لهم إليه، فكيف يعلمونه؟ وإذا لم يعلموه يقينا فكيف يحيلون عليه: «قُلْ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا؟ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ» ..
إن لله أوامر ونواهي معلومة علما قطعيا، فلماذا يتركون هذه المعلومات القطعية، ليمضوا وراء الحدس والخرص في واد لا يعلمونه؟
هذا هو فصل القول في هذه القضية .. إن الله لا يكلف الناس أن يعلموا غيب مشيئته وقدره حتى يكيفوا أنفسهم على حسبه. إنما يكلفهم أن يعلموا أوامره ونواهيه، ليكيفوا أنفسهم على حسبها .. وهم حين يحاولون هذا يقرر الله سبحانه أنه يهديهم إليه، ويشرح صدورهم للإسلام .. وهذا حسبهم في القضية التي تبدو عندئذ - في واقعها العملي - يسيرة واضحة، بريئة من غموض ذلك الجدل وتحكماته! إن الله قادر لو شاء على أن يخلق بني آدم ابتداء بطبيعة لا تعرف إلا الهدى، أو يقهرهم على الهدى. أو يقذف بالهدى في قلوبهم فيهتدوا بلا قهر ... ولكنه - سبحانه - شاء غير هذا! شاء أن يبتلي بني آدم بالقدرة على الاتجاه إلى الهدى أو الضلال، ليعين من يتجه منهم إلى الهدى على الهدى، وليمد من يتجه منهم إلى الضلال في غيه وفي عمايته .. وجرت سنته بما شاء ..
«قُلْ: فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ، فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ».