فالإنسان يبقى إنسانا بعد الجنس واللون والقوم والأرض. ولكنه لا يبقى إنسانا بعد الروح والفكر! ثم هو يملك بإرادته الإنسانية الحرة - وهي أسمى ما أكرمه الله به - أن يغير عقيدته وتصوره وفكره ومنهج حياته من ضلال إلى هدى عن طريق الإدراك والفهم والاقتناع والاتجاه. ولكنه لا يملك أبدا أن يغير جنسه، ولا لونه، ولا قومه. لا يملك أن يحدد سلفا مولده في جنس ولا لون كما لا يمكنه أن يحدد سلفا مولده في قوم أو أرض .. فالمجتمع الذي يتجمع فيه الناس على أمر يتعلق بإرادتهم الحرة هو بدون شك أرقى وأمثل وأقوم من المجتمع الذي يتجمع فيه الناس على أمور خارجة عن إرادتهم ولا يد لهم فيها! وحين تكون «إنسانية الإنسان» هي القيمة العليا في مجتمع وتكون «الخصائص الإنسانية» فيه موضع التكريم والرعاية، يكون هذا المجتمع متحضرا متقدما .. أو بالاصطلاح الإسلامي: ربانيا مسلما .. فأما حين تكون «المادة» - في أية صورة من صورها - هي القيمة العليا .. سواء في صورة «النظرية» كما في الماركسية، أو في صورة «الإنتاج المادي» كما في أمريكا وأوربا وسائر المجتمعات التي تعتبر الإنتاج المادي هو القيمة العليا، التي تهدر في سبيلها كل القيم والخصائص الإنسانية - وفي أولها القيم الأخلاقية - فإن هذا المجتمع يكون مجتمعا رجعيا متخلفا .. أو بالاصطلاح الإسلامي: مجتمعا جاهليا مشركا ..
إن المجتمع الرباني المسلم لا يحتقر المادة لا في صورة «النظرية» باعتبار المادة هي التي تؤلف كيان هذا الكون الذي نعيش فيه ولا في صورة «الإنتاج المادي» والاستمتاع به. فالإنتاج المادي من مقومات خلافة الإنسان في الأرض بعهد الله وشرطه والاستمتاع بالطيبات منها حلال يدعو الإسلام إليه - كما سنرى في سياق هذه السورة - ولكنه لا يعتبرها هي القيمة العليا التي تهدر في سبيلها خصائص «الإنسان» ومقوماته! كما تعتبرها المجتمعات الجاهلية .. الملحدة أو المشركة ..
وحين تكون القيم «الإنسانية» والأخلاق «الإنسانية» - كما هي في ميزان الله - هي السائدة في مجتمع، فإن هذا المجتمع يكون متحضرا متقدما .. أو بالاصطلاح الإسلامي .. ربانيا مسلما .. والقيم «الإنسانية» والأخلاق «الإنسانية» ليست مسألة غامضة ولا مائعة وليست كذلك قيما وأخلاقا متغيرة لا تستقر على حال - كما يزعم الذين يريدون