فعلام تلوموننا ونحن وإياكم في طريق واحد إلى مصير واحد؟ إننا لم نهتد ونضللكم. ولو هدانا اللّه لقدناكم إلى الهدى معنا، كما قدناكم حين ضللنا إلى الضلال! وهم ينسبون هداهم وضلالهم إلى اللّه. فيعترفون الساعة بقدرته وكانوا من قبل ينكرونه وينكرونها، ويستطيلون على الضعفاء استطالة من لا يحسب حسابا لقدرة القاهر الجبار. وهم إنما يتهربون من تبعة الضلال والإضلال برجع الأمر للّه .. واللّه لا يأمر بالضلال كما قال سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ» .. ثم هم يؤنبون الضعفاء من طرف خفي، فيعلنونهم بأن لا جدوى من الجزع كما أنه لا فائدة من الصبر. فقد حق العذاب، ولا راد له من صبر أو جزع، وفات الأوان الذي كان الجزع فيه من العذاب يجدي فيرد الضالين إلى الهدى وكان الصبر فيه على الشدة يجدي فتدركهم رحمة اللّه.
لقد انتهى كل شيء، ولم يعد هنالك مفر ولا محيص: «سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ»! لقد قضي الأمر، وانتهى الجدل، وسكت الحوار .. وهنا نرى على المسرح عجبا. نرى الشيطان .. هاتف الغواية، وحادي الغواة .. نراه الساعة يلبس مسوح الكهان، أو مسوح الشيطان! ويتشيطن على الضعفاء والمستكبرين سواء، بكلام ربما كان أقسى عليهم من العذاب: «وَقالَ الشَّيْطانُ - لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ - إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ، وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ. وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي. فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ. ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ. إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ. إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ».
اللّه! اللّه! أما إن الشيطان حقا لشيطان! وإن شخصيته لتبدو هنا على أتمها كما بدت شخصية الضعفاء وشخصية المستكبرين في هذا الحوار .. إنه الشيطان الذي وسوس في الصدور، وأغرى بالعصيان، وزين الكفر، وصدهم عن استماع الدعوة .. هو هو الذي يقول لهم وهو يطعنهم طعنة أليمة نافذة، حيث لا يملكون أن يردوها عليه - وقد قضي الأمر - هو الذي يقول الآن، وبعد فوات الأوان: «إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ»! ثم يخزهم وخزة أخرى بتعبيرهم بالاستجابة له، وليس له عليهم من سلطان، سوى أنهم تخلوا عن شخصياتهم، ونسوا ما بينهم وبين الشيطان من عداء