إن هذا القول إنما يقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - الرسول الذي أوحي إليه من ربه. وكلف مخاطبة الناس بهذه العقيدة .. وخلاصة هذا القول: إن أمر هذا الدين ليس إليه هو، ومآل هذه الدعوة ليس من اختصاصه! إنما عليه البلاغ وليس عليه هداية الناس. فاللّه وحده هو الذي يملك الهداية. وسواء حقق اللّه بعض وعده له من مصير القوم أو أدركه الأجل قبل تحقيق وعد اللّه، فهذا أو ذاك لا يغير من طبيعة مهمته .. البلاغ .. وحسابهم بعد ذلك على اللّه .. وليس بعد هذا تجريد لطبيعة الداعية وتحديد لمهمته. فواجبه محدد، والأمر كله في هذه الدعوة وفي كل شيء آخر للّه.
بذلك يتعلم الدعاة إلى اللّه أن يتأدبوا في حق اللّه! إنه ليس لهم أن يستعجلوا النتائج والمصائر .. ليس لهم أن يستعجلوا هداية الناس، ولا أن يستعجلوا وعد اللّه ووعيده للمهتدين وللمكذبين .. ليس لهم أن يقولوا: لقد دعونا كثيرا فلم يستجب لنا إلا القليل أو لقد صبرنا طويلا فلم يأخذ اللّه الظالمين بظلمهم ونحن أحياء! ..
إن عليهم إلا البلاغ .. أما حساب الناس في الدنيا أو في الآخرة فهذا ليس من شأن العبيد. إنما هو من شأن اللّه! فينبغي - تأدبا في حق اللّه واعترافا بالعبودية له - أن يترك له سبحانه، يفعل فيه ما يشاء ويختار ..
والسورة مكية .. من أجل ذلك تحدد فيها وظيفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - «بالبلاغ» .. ذلك أن «الجهاد» لم يكن بعد قد كتب. فأما بعد ذلك فقد أمر بالجهاد - بعد البلاغ - وهذا ما تنبغي ملاحظته في الطبيعة الحركية لهذا الدين. فالنصوص فيه نصوص حركية مواكبة لحركة الدعوة وواقعها وموجهة كذلك لحركة الدعوة وواقعها .. وهذا ما تغفل عنه كثرة «الباحثين» في هذا الدين في هذا الزمان. وهم يزاولون «البحث» ولا يزاولون «الحركة» فلا يدركون - من ثم - مواقع النصوص القرآنية، وارتباطها بالواقع الحركي لهذا الدين! وكثيرون يقرأون مثل هذا النص: «فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ» ثم يأخذون منه أن مهمة الدعاة إلى اللّه تنتهي عند البلاغ. فإذا قاموا «بالتبليغ» فقد أدوا ما عليهم! .. أما «الجهاد»! فلا أدري - واللّه - أين مكانه في تصور هؤلاء! كما أن كثيرين يقرأون مثل هذا النص، فلا يلغون به الجهاد، ولكن يقيدونه! .. دون أن يفطنوا إلى أن هذا نص مكي