الواردة في هذه السورة، هي المقتضى الطبيعي لهذه الحقائق كلها مجتمعة وأنها ليست أحكاما محددة بزمان، ولا مقيدة بحالة. وإن كان هذا في الوقت ذاته لا ينسخ الأحكام المرحلية السابقة النسخ الشرعي الذي يمنع العمل بها في الظروف والملابسات التي تشابه الظروف والملابسات التي تنزلت فيها. فهناك دائما طبيعة المنهج الإسلامي الحركية، التي تواجه الواقع البشري مواجهة واقعية، بوسائل متجددة، في المراحل المتعددة.
وحقيقة أن هذه الأحكام النهائية الواردة في هذه السورة كانت تواجه حالة بعينها في الجزيرة وكانت تمهيدا تشريعيا للحركة المتمثلة في غزوة تبوك، لمواجهة تجمع الروم على أطراف الجزيرة مع عمالهم للانقضاض على الإسلام وأهله - وهي الغزوة التي يقوم عليها محور السورة - ولكن وضع أهل الكتاب تجاه الإسلام وأهله لم يكن وليد مرحلة تاريخية معينة. إنما كان وليد حقيقة دائمة مستقرة كما أن حربهم للإسلام والمسلمين لم تكن وليدة فترة تاريخية معينة. فهي ما تزال معلنة ولن تزال .. إلا أن يرتد المسلمون عن دينهم تماما! ..
وهي معلنة بضراوة وإصرار وعناد، بشتى الوسائل على مدار التاريخ! ومن ثم فهذه الأحكام الواردة في هذه السورة أحكام أصيلة وشاملة وغير موقوتة بزمان ولا مقيدة بمكان .. ولكن العمل بالأحكام إنما يتم في اطار المنهج الحركي الإسلامي، الذي يجب أن يتم الفقه به، قبل أن يتحدث المتحدثون عن الأحكام في ذاتها.
وقبل أن يحمل واقع ذراري المسلمين - الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان - وضعفهم وانكسارهم على دين اللّه القوي المتين! إن الأحكام الفقهية في الإسلام كانت - وستظل دائما - وليدة الحركة وفق المنهج الإسلامي. والنصوص لا يمكن فهمها إلا باستصحاب هذه الحقيقة .. وفرق بعيد بين النظرة إلى النصوص كأنها قوالب في فراغ والنصوص في صورتها الحركية وفق المنهج الإسلامي. ولا بد من هذا القيد: «الحركة وفق المنهج الإسلامي» فليست هي الحركة المطلقة خارج المنهج بحيث نعتبر «الواقع البشري» هو الأصل أيا كانت الحركة التي أنشأته، ولكن «الواقع البشري» يصبح عنصرا أساسيا في فقه الأحكام إذا كان قد أنشأه المنهج الإسلامي ذاته.