إنه يفوض الأمر للّه ربه، في مستقبل ما يكون من أمره وأمر المؤمنين معه .. إنه يملك رفض ما يفرضه عليه الطواغيت، من العودة في ملتهم ويعلن تصميمه والمؤمنين معه على عدم العودة ويعلن الاستنكار المطلق للمبدأ ذاته .. ولكنه لا يجزم بشيء عن مشيئة اللّه به وبهم .. فالأمر موكول إلى هذه المشيئة، وهو والذين آمنوا معه لا يعلمون، وربهم وسع كل شيء علما. فإلى علمه ومشيئته تفويضهم واستسلامهم. إنه أدب ولي اللّه مع اللّه. الأدب الذي يلتزم به أمره، ثم لا يتألى بعد ذلك على مشيئته وقدره. ولا يتأبى على شيء يريده به ويقدره عليه.
وهنا يدع شعيب طواغيت قومه وتهديدهم ووعيدهم، ويتجه إلى وليه بالتوكل الواثق، يدعوه أن يفصل بينه وبين قومه بالحق: «عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا. رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ. وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ» .. وهنا نشهد ذلك المشهد الباهر: مشهد تجلي حقيقة «الألوهية» في نفس ولي اللّه ونبيه
إنه يعرف مصدر القوة، وملجأ الأمان. ويعلم أن ربه هو الذي يفصل بالحق بين الإيمان والطغيان. ويتوكل على ربه وحده في خوض المعركة المفروضة عليه وعلى المؤمنين معه، والتي ليس منها مفر. إلا بفتح من ربه ونصر. عندئذ يتوجه الملأ الكفار من قومه إلى المؤمنين به يخوفونهم ويهددونهم. ليفتنوهم عن دينهم: «وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ» ..
إنها ملامح المعركة التي تتكرر ولا تتغير .. إن الطواغيت يتوجهون أولا إلى الداعية ليكف عن الدعوة. فإذا استعصم بإيمانه وثقته بربه، واستمسك بأمانة التبليغ وتبعته، ولم يرهبه التخويف بالذي يملكه الطغاة من الوسائل .. تحولوا إلى الذين اتبعوه يفتنونهم عن دينهم بالوعيد والتهديد، ثم بالبطش والعذاب .. إنهم لا يملكون حجة على باطلهم، ولكن يملكون أدوات البطش والإرهاب ولا يستطيعون إقناع القلوب بجاهليتهم - وبخاصة تلك التي عرفت الحق فما عادت تستخف بالباطل - ولكنهم يستطيعون البطش بالمصرين على الإيمان، الذي أخلصوا الدينونة للّه فأخلصوا له السلطان.