في جنوب موريتانيا صحراء قاحلة يعيش فيها طوائف وقبائل من البربر تسمى: قبائل صنهاجة، وأكبر فرعين فيها: جدالة ولمتونة.
فالقبيلة التي كانت تسكن في منطقة جنوب موريتانيا هي جدالة، وكان على رأس هذه القبيلة رجل اسمه يحيى بن إبراهيم الجدالي، كانت فطرته حسنة، نظر في أحوال قبيلته فوجد الناس من حوله قد أدمنوا شرب الخمور، ووجد الزنا قد فشا في الناس، إلى درجة أن الرجل كان يزاني حليلة جاره ولا يعترض عليه جاره، كما وصف ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ} [العنكبوت:29]، فقد كانوا يأتون المنكر في ناديهم، والرجل منهم لا يعترض على ذلك؛ لأنه يفعل نفس الأمر؛ وكثر الزواج من أكثر من أربع نسوة ولا ينكر عليهم منكر، وأصبح السلب والنهب هو الأصل، والقبيلة القوية تأكل الضعيفة، والقبائل مشتتة ومفرقة، والوضع شديد الشبه بما يحدث في دويلات الطوائف، بل هو أشد، ولا يخفى علينا جميعاً أن الوضع في سنة (440) سواء في بلاد موريتانيا أو الأندلس هو أشد وطأة مما نحن عليه الآن.
فكان هذا الرجل صاحب الفطرة الطيبة يعلم أن كل هذا من المنكر، لكن ليست في يده طاقة للتغيير؛ لأن الشعب كله يعيش في ضلال وبعد عن الدين، وليس عنده من العلم ما يغير به أحوال الناس، ولا يعرف ما هي الأصول الصحيحة، إنما يعلم أن كل ما يحدث من حوله هو خطأ، لكن كيف يغير؟ فهداه ربه إلى أن يحج وعند رجوعه من الحج يمر على أكبر مدن الإسلام في المنطقة وهي مدينة القيروان، التي هي موجودة الآن في تونس، وعلماء القيروان مشهورون بالعلم، فذهب بالفعل إلى الحج، ثم عاد إلى القيروان، وهناك قابل أبا عمران الفاسي شيخ المالكية في مدينة القيروان، والمذهب المالكي هو المنتشر في كل بلاد الشمال الإفريقي، وهو المذهب السائد في بلاد الأندلس؛ فحكى له المنكرات التي تحدث في قومه، والجهل المطبق عليهم، فأرسل معه رجلاً يعلم الناس دينهم، وهو الشيخ عبد الله بن ياسين، فذهب معه حتى وصلا إلى جنوب موريتانيا، فوجدها أرضاً شديدة الجدب، وفقيرة وشديدة الحر، ونظر في الناس فرأى هذه المنكرات تفعل أمام كل الناس، ولا ينكر عليهم منكر، فبدأ في أناة شديدة يعلم الناس، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فثارت عليه جميع الفصائل، وثار عليه أصحاب المصالح، وثار عليه الشعب؛ لأن الناس تريد أن تعيش في شهواتها، وأصحاب المصالح مستفيدون من هذا الذي يحدث في قبائل جدالة في هذه المنطقة، فبدأ الناس يجادلونه ويصدونه عما يأمر به، ولم يستطع يحيى بن إبراهيم الجدالي زعيم القبيلة أن يحميه؛ لأن الشعب ليس متربياً، لذا فهو رافض، ولو أصر يحيى بن إبراهيم الجدالي على هذا الأمر لخلعه الشعب، ولخلعته القبيلة، وبدأ يحاول مرة ثانية وثالثة، فبدأ الناس يهددونه بالضرب إن استمر في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، ثم هددوه بالطرد من البلاد أو القتل، لكنه كان يدعو ولا يبالي بفعلهم حتى قاموا فعلاً بطرده من البلاد، فخرج الشيخ عبد الله بن ياسين رحمه الله من البلد ودموعه تنحدر على خده، وهو يقول والحسرة في قلبه: يا ليت قومي يعلمون، يريد أن يغير ولكنه لا يستطيع، فيحدث نفسه: أأرجع مرة أخرى إلى القيروان، إلى طلاب العلم؟ ولمن أترك هؤلاء الناس؟ فحز في نفسه أن يولد الناس في هذه البلاد فلا يجدون من يعلمهم، ففكر أن يدخل إليهم مرة أخرى، لكنه سيموت، وما الفائدة في موته، إذا كان الموت لن يفيد، فتعمق أكثر في الصحراء، في جنوب موريتانيا، حتى وصل إلى شمال السنغال، وهي بلاد إسلامية كبيرة جداً، (90%) أو أكثر من سكان السنغال من المسلمين.
فنزل في شمال السنغال على مصب نهر من الأنهار، في غابة من غابات إفريقيا هناك فوضع خيمته على مصب النهر، وبعث برسالة إلى أهل جدالة في جنوب موريتانيا أن من أراد أن يتعلم العلم فليأتني في هذا المكان، وكان في جدالة مجموعة من الشباب تتحرق قلوبها للدين، لكن أصحاب المصالح وأصحاب القوى في هذه البلاد يمنعونهم من الارتباط بالدين، فلما علموا أن الشيخ في شمال السنغال، تاقت قلوبهم إلى لقياه، فاتجهوا من جنوب موريتانيا إلى شمال السنغال، وجلسوا مع الشيخ عبد الله بن ياسين في خيمته، وكانوا اثنين أو ثلاثة أو أربعة فأخذ يعلمهم أن الإسلام دين شامل ومتكامل ينظم كل أمور الحياة، فبدأ يعلمهم العقيدة الصحيحة، وكيفية العبادة والجهاد في سبيل الله، وركوب الخيل، وحمل السيف، وكيف يعتمدون على أنفسهم، فيذهبون إلى الغابات فيصطادون الصيد ويأتون به إلى الخيمة يطبخونه ويأكلونه ولا يسألون أكلهم أو طعامهم من الفرق المحيطة بشمال السنغال؛ فذاق هؤلاء الشباب حلاوة الدين، وشعروا أنه من واجبهم أن يأتوا بأحبابهم وأصحابهم وأقاربهم إلى هذا الذي ذاقوا حلاوته، فذهبوا إلى جدالة، فعاد كل واحد منهم برجل، فبدلاً من خمسة أصبحوا عشرة، فأخذ الشيخ عبد الله بن ياسين يع