كان هذا هو التاريخ السياسي والعسكري لـ عبد الرحمن الناصر رحمه الله، لكن لم يكن كل جهد عبد الرحمن الناصر موجهاً إلى السياسة وإلى هذه الجيوش والحروب فقط، بل كان متكاملاً متوازناً في كل أموره رحمه الله.
فقد أنشأ الحضارة العظيمة في بلاد الأندلس، وأنشأ هياكل إدارية على أعلى مستوى، أكثر مما عليه الآن الوزارات والهيئات، وجعل لكل أمر مسئولاً، ولكل مسئول وزارة كبيرة تضم عمالاً وكتبة وأفراداً كثيرين.
وقام بالحضارة المعمارية، فأنشأ مدينة ضخمة جداً تسمى مدينة الزهراء في الشمال الغربي لقرطبة، واضطر لإنشاء هذه المدينة لاستقبال الوفود الكثيرة التي تأتي من كل بلاد العالم تطلب وده رحمه الله، فأنشأ مدينة الزهراء على طراز رفيع جداً، وعلى درجات مختلفة، فالدرجة السفلى للحراس والكتبة والعمال، ثم درجة أعلى منها للوزراء وكبار رجال الدولة، ثم أعلى الدرجات في منتصف المدينة وفيها قصر الخلافة الكبير، واستجلب لهذه المدينة المواد من القسطنطينية وبغداد وتونس وأوروبا، وأنشأ قصر الزهراء، ولم يكن في الإسلام قصر مثل قصر الزهراء، وبالغ في إنشائه حتى أصبح من معجزات زمانه، وكان الناس يأتون من أوروبا والعالم الإسلامي ليشاهدوا قصر الزهراء في مدينة الزهراء.
أما مدينة قرطبة في عهد عبد الرحمن الناصر، فقد اتسعت جداً، وبلغ سكان قرطبة في عهد عبد الرحمن الناصر نصف مليون مسلم، وهي بذلك تعتبر ثاني أكبر مدينة في تعداد السكان في العالم بأسره، والمدينة الأولى هي مدينة بغداد إذ كان عدد سكانها مليونين.
وفي مدينة قرطبة كان هناك ثلاثة عشر ألف دار، والدار بلغة ذلك الزمان عبارة عن بيت واسع فسيح ومن حوله حديقة، وكان فيها ثمان وعشرون ضاحية، وثلاثة آلاف مسجد، حتى أطلق عليها بحق جوهرة العالم، ووسع في مسجد قرطبة حتى أصبح من آيات الفن المعماري في زمانه، وكان المحراب عبارة عن قطعة رخام واحدة على شكل محارة أتى بها من إيطاليا.
وأنشأ حدائق للحيوان في كل بلاد الأندلس، وكذا مسارح للطيور.
ومن الناحية العسكرية فقد أنشأ أسطولاً بلغ أكثر من مائتي سفينة في زمانه، وبلغ الجيش أكثر من مائة ألف فارس، وزاد في مصانع الأسلحة حتى كثرت في كل مدينة.
ومن الناحية الاقتصادية فقد اهتم جداً بالزراعة، حتى كثرت الفواكه، واهتم بزراعة القطن والكتان والقمح، واهتم جداً بقوانين الزراعة.
وأيضاً في مجال الصناعة والمناجم، فقد اهتم باستخراج الذهب والفضة والنحاس، واهتم بصناعة الجلود والسفن وآلات الحرب والأدوية، وأنشأ كثيراً من الأسواق، وجعل هناك الأسواق التخصصية، فهناك مثلاً: سوق للنحاسين، وسوق للحوم، وسوق حتى للزهور.
وكانت البلاد في عهده تعيش في رخاء منقطع النظير، وكثرت الأموال حتى بلغت ميزانية الدولة في عهده ستة ملايين دينار ذهبي، كان يقسمها كجده عبد الرحمن الداخل رحمه الله ثلاثة أقسام: ثلث للجيش، وثلث للبناء والمعمار والمرتبات وما إلى ذلك، والثلث الأخير للادخار لنوائب الزمن.
أما من الناحية الأمنية فقد قويت الشرطة جداً في عهد عبد الرحمن الناصر، كانت هناك الشرطة التخصصية، شرطة للنهار، وشرطة لليل، وشرطة للتجارة، وشرطة للبحر، وهكذا وزع أقسامها حتى عم الأمن والأمان، ولم تقم ثورات أبداً في النصف الثاني من خلافته رحمه الله، وأنشأ ما يعرف بمحاكم المظالم، وهي شبيهة جداً بمحاكم الاستئناف في هذه الآونة، وطور المحاكم وأقام الشرع إقامة محكمة دقيقة، ما فرط قدر استطاعته في كلمة من كلمات الله، أو في كلمة من كلمات رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
أما البريد فقد ازدهر في عهده رحمه الله.
أما من الناحية العلمية فقد شاع التعليم في عهده، واهتم بمكتبة قرطبة التي كانت قد أسست قبل ذلك الزمن، وزاد في حجمها حتى بلغ عدد الكتب فيها أربعمائة ألف كتاب، في زمن ليس فيه طباعة، وإنما فيه النسخ فقط، فقد جمعها من كل بلاد المسلمين.
وظهرت للمسلمين وظائف عجيبة جداً في ذلك الزمن، وهي: وظيفة النساخين، فقد كان الكتاب الواحد من الصعب جداً طباعته أكثر من نسخة، فظهرت هذه الوظيفة، فمن أراد ينسخ كتاباً ليمتلكه في بيته يذهب إلى نساخ، فيذهب النساخ إلى مكتبة قرطبة فينسخ له ذلك، ولم يكن هناك حقوق طبع مثل الآن، فالكاتب أو المؤلف كان يكتب الكتاب ويتمنى أن ينتشر وينسخه كل العالمين؛ لأنه ما كان يكتب ذلك إلا لابتغاء وجهه سبحانه وتعالى.
وظهرت أيضاً وظيفة الباحثين، فكان من الصعب على الواحد أن يبحث في أربعمائة ألف كتاب، فكان يذهب إلى الباحثين الخبراء ليبحثوا له عن مسألته، سواء كانت في الفقه أو العقيدة أو السيرة أو غيرها.
وذاع صيت عبد الرحمن الناصر في الدنيا جميعاً، ورضيت عنه ممالك الشمال بالعهد والجزية، وجاءت السفارات من كل أوروبا تطلب وده، فقد جاءت من ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وإنجلترا وبيزنطة في أقصى بلاد شرق أوروبا، وأهدت له الهدايا، ومن أشهرها جوهر