ثالثاً: فكر عبد الرحمن الناصر رحمه الله أن يبدأ أولاً بالقضاء على ثورة عمر بن حفصون أو صمويل بن حفصون؛ لأن عمر بن حفصون ارتد عن الإسلام فأصبح قتاله فرضاً على المسلمين، فهذا الرجل لا يختلف عليه اثنان في أنه يستحق القتل؛ لأنه ارتد عن دين الله سبحانه وتعالى.
الأمر الثاني: أن المعركة في منتهى الوضوح، فهي معركة بين المسلمين والمرتدين، فاستطاع أن يحفز أهل قرطبة الذين قد ألفوا الثورات لقتال المرتدين، فقاد حملة بعد شهرين فقط من توليه الإمارة، واسترد مدينة إستجة التي كانت من أحصن مدن الأندلس، ثم قاد حملة كبيرة جداً بنفسه على صمويل بن حفصون، استمرت ثلاثة شهور كاملة: شهر شعبان، ورمضان، وشوال في سنة (300) من الهجرة، أي: في نفس العام الذي تولى فيه عبد الرحمن الناصر رحمه الله، فاسترد جيان، وهي من المدن الحصينة جداً، واسترد فيها سبعين حصناً من حصون عمر بن حفصون، ثم ما زالت قوة عمر بن حفصون أو صمويل بن حفصون كبيرة جداً، حيث يأتيه المدد من ممالك النصارى في الشمال، ومن الدولة الفاطمية في الجنوب، ومن إشبيلية؛ لأن حاكمها من أولاد حجاج، وهو حاكم مسلم، لكنه متمرد على سلطة قرطبة، ومعه جيش إشبيلية المسلم وهو جيش كبير، فأراد عبد الرحمن الناصر رحمه الله أن يقطع عليه المدد القادم من هذه الأماكن الثلاثة، ولكن بمن يبدأ؟ هل يبدأ بالنصارى أو بالدولة الفاطمية أو بإشبيلية؟! فكر عبد الرحمن الناصر رحمه الله في أن يهجم على إشبيلية أكبر مدن الجنوب بعد قرطبة؛ لأن عبد الرحمن الناصر رحمه الله له نزعة إسلامية واضحة جداً، والتأثير الإسلامي للدعوة الإسلامية على القلوب كبير، فهو يؤمل أن يرغم حاكمها على الانضمام أو الانصياع له بالقوة، وأن ينضم إليه جيش إشبيلية المسلم، فبذلك تقوى جيوش الدولة الأموية في هذه الفترة، وهذا ما فعله بالفعل، فذهب إلى إشبيلية سنة (301هـ) أي: بعد أقل من سنة من ولايته، واستطاع بفضل الله سبحانه تعالى وكرمه ومنه وجوده على المسلمين أن يضم إشبيلية، فقويت شوكته جداً رحمه الله، ثم عاد إلى عمر بن حفصون بعد ذلك وقد قطع المدد الغربي عنه والذي كان يأتيه من إشبيلية، فاسترد منه جبال رندة، ثم شذونة، ثم قرمونة، وهذه جميعاً من مدن الجنوب، ثم تعمق في الجنوب أكثر حتى وصل إلى مضيق جبل طارق؛ فاستولى عليه، وبذلك قطع المساعدات الفاطمية التي تقدم عن طريق جبل طارق، والمساعدات التي تأتي من الدول النصرانية؛ إذ إنها تأتي من الشمال عن طريق المحيط الأطلسي، ثم مضيق جبل طارق، ثم البحر الأبيض المتوسط، ثم تدخل على عمر بن حفصون، وبذلك قطع الإمداد على عمر بن حفصون من جميع النواحي.
ونتيجة لهذه الأمور فإن صمويل بن حفصون طلب من عبد الرحمن الناصر رحمه الله المعاهدة وصلح الأمان على أن يعطيه (162) حصناً، فوافق عبد الرحمن الناصر رحمه الله؛ لأن البلاد عنده متقلبة شديدة التقلب، وهو يريد أن يتفرغ لغيره، فلما أمن جانبه وضمن في يده (162) حصناً كاملة وافقه على المعاهدة، فعند وقت الحرب كان يحارب وعند وقت المعاهدة تجده رحمه الله من أفضل الساسة.