ثانياً: السبب الثاني لضعف الإمارة الأموية في الفترة الثانية: هو زرياب، مطرب من مطربي بغداد، تربى في بيت الخلفاء في بغداد، وكان يغني لهم، وكان معلمه هو إبراهيم الموصلي، وهو كبير مطربي بغداد في ذلك الوقت، ومع مرور الوقت لمع نجم زرياب هناك في بغداد، فغار منه إبراهيم الموصلي فدبر له مكيدة، فطرد من البلاد، فخرج من بغداد متجهاً صوب المغرب، حتى وجد ضالته في الأندلس؛ أرض غنية جداً، فيها أموال كثيرة، وقصور، وحدائق، هذه البلاد هي التي تستقبل المطربين في ذلك الزمن، مع أن الأندلس إلى هذه الفترة لم يكن فيها غناء.
فلما وصل زرياب أرض الأندلس استقبلوه وعظموه وأكرموه، وأدخلوه على الخلفاء، وفي بيوت عامة، ونواديهم؛ فأخذ يغني للناس، ويعلمهم ما قد تعلمه هناك في بغداد، ولم يكتف زرياب بتعليمهم الغناء، وتكوين ما يسمى بالموشحات الأندلسية المشهورة، لكنه بدأ يعلمهم فنون الموضة؛ فقال للناس: هناك لبس خاص بالصيف، ولبس خاص بالشتاء، ولبس خاص بالربيع، ولبس خاص بالخريف، ولبس خاص بالمناسبات العامة، كما هو الحال في أرض بغداد، ولم يكن الناس في الأندلس على هذه الشاكلة، فأخذوا يتعلمون من زرياب، وأخذ يعلمهم فنون الطعام، كل يوم أكلة جديدة، وصنف جديد وهكذا تعلم الناس ألواناً كثيرة من الطعام، ثم أخذ يحكي لهم حكايات الأمراء والخلفاء، وحكايات الأساطير والروايات وما إلى ذلك، حتى تعلق الناس به بشدة، وتعلق الناس بالغناء، وكثر المطربون في بلاد الأندلس، ثم بعد ذلك انتشر الرقص، وكان في البداية بين الرجال، ثم انتقل إلى غيرهم وهكذا.
في هذا الوقت الذي دخل فيه زرياب إلى أرض الأندلس، كان في عهد عبد الرحمن الأوسط رحمه الله، الذي اهتم بالعلم والحضارة والعمران والاقتصاد وما إلى ذلك، لكنه للأسف ترك زرياب يفعل كل هذه الأمور؛ مع أن النهضة العلمية كانت موجودة وكان العلماء كثيرين، إلا أن كلام زرياب صرف الناس عن سماع العلماء إلى سماع زرياب، وصرف الناس عن سماع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقصص السلف الصالح إلى سماع حكايات زرياب العجيبة وأساطيره الغريبة، بل صرف الناس عن سماع القرآن إلى سماع أغانيه، وهذا ليس عجيباً وليس جديداً، فإنه لما ظهرت دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هناك رجل اسمه النضر بن الحارث، وكان من رءوس الكفر في مكة، ولما رأى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطب الناس بالقرآن فيتأثرون ويبكون ويؤمنون بهذا الدين، ذهب إلى بلاد فارس؛ وقطع أميالاً كثيرة، وقضى هناك فترة طويلة؛ ليتعلم هناك حكايات رستم وإسفنديار، ويتعلم الأساطير التاريخية، واشترى مغنيتين وعاد إلى بلاد مكة، فإذا وجد في قلب رجل ميلاً إلى الإسلام أرسل له المغنيتين تغنيان له مما عرفه في بلاد فارس من حكايات رستم وإسفنديار حتى تلهياه عن هذا الدين، وهكذا ظل يفعل كحرب مضادة للدعوة الإسلامية في بلاد مكة، فأنزل الله فيه قرآناً: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان:6]، ويقسم عبد الله بن مسعود رحمه الله أنها ما نزلت إلا في الغناء.
فالشيطان لا ينام ولا يهدأ، حتى في وجود هذه النهضة العلمية، قال تعالى: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17]، وكلما زاد الاهتمام بالدين كلما نشط الشيطان؛ عن طريق زرياب ومن سار على نهج زرياب إلى يومنا هذا، ونحن ننظر في رمضان كلما ارتقى مستوى الإيمان عند الناس، وكلما تعلقت قلوبهم بالمساجد زاد الشيطان في أثره وفي مفعوله، فيضع الناس على طريق غير التي أرادها الله سبحانه وتعالى لهم.
فلو أخذنا عينة عشوائية من الناس وسألناهم إن كانوا يحفظون من الأغاني أكثر أم القرآن، أو يحفظون قصص الأفلام والمسلسلات أكثر أم قصص الأنبياء والصحابة والفتوح الإسلامية وما إلى ذلك؟ فالأمر خطير جد خطير.
كنت أعطي هذه المحاضرة في مكان يحضر فيه كثير من المغاربة التونسيين والجزائريين، وفي أثناء إلقاء المحاضرة ذكرت قصة زرياب هذه، لكن الحقيقة أنني لم أكن أعرف اسمه معرفة جيدة، فذكرته زرياد بالدال وليس بالباء، وبعد المحاضرة جاء إلي أخ من تونس، فقال لي: إن الرجل اسمه زرياب ليس زرياد، فقلت: جزاك الله خيراً، ولكنني تعجبت أنه يعرف رجلاً مغنياً ميتاً من أكثر من (1200) سنة في بلاد الأندلس، فقلت في نفسي: إن هذا الرجل واسع الاطلاع، وبعد ذلك بقليل جاء إلي جزائري وقال لي: